قوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قَدَّرُوا بتشديد الدال حَقَّ قَدْرِهِ بفتح الدال{[47701]} ، وافقهم الأعمش على فتح الدال من{[47702]} «قَدَرِهِ » والمعنى وما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره .
قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } مبتدأ وخبر{[47703]} في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة{[47704]} ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] أي ( كيف ){[47705]} تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا . و «جميعاً » حال{[47706]} وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع{[47707]} . قال ابن الخطيب : ونظيره قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 93 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] وقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] ولأن الموضع موضع تفخيم{[47708]} ولعطف الجمع عليها . ( والعامل ){[47709]} في هذه الحال ما دل عليه «قَبْضَتُهُ »{[47710]} ، ( ولا يجوز أن{[47711]} يعمل فيها «قَبْضَتُهُ » ) سواء جعلته مصدراً ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مراداً به المقدار{[47712]} . قال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع «يعني في الأرض » فإنه{[47713]} أريدَ به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها{[47714]} .
وقال أبو البقاء : و «جَمِيعاً »{[47715]} حال من الأرض ، والتقدير : إذا كانت مجتمعةً قَبْضتُهُ أي مقبوضةً ، فالعامل في «إذا » المصدر ، لأنه بمعنى المفعول ، وقال أبو علي في{[47716]} الحجة : التقدير : «ذَاتُ قَبْضَتِهِ » . وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إلَيْه لا يعْمَلُ فيما قبله ، وهذا لا يصحُّ لأنه الآن غير مضاف إليه ، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه{[47717]} انتهى . وهو كلام فيه إشكال ؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في «إِذا » التي لم يلفظ بها{[47718]} .
وقوله : { قَبْضَتُهُ } إنْ قَدَّرْنَا مضافاً- كما قال الفارسيُّ أي ذاتُ قبضته- لم يكن فيه وقوع المصدر موقع «مفعول » وإن لم يُقَدَّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعاً موقعه ، وحينئذ يقال : كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول{[47719]} وهو غير جائز ؟ ! لا يقال : حُلّة نَسْجَةُ اليَمَن بل نَسْجُ اليَمن أي مَنْسُوجُه .
والجواب : أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد{[47720]} ، وهذه لمجرد التأنيث . كذا أجيب . وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة ، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار ( ذلك ){[47721]} ( التحديد ){[47722]} .
والقَبْضَةُ - بالفتح - المَرَّة ، وبالضم اسم{[47723]} المقبوض كالغُرْفَة والغَرْفَة ، قال تعالى : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] .
والعامة على رفع «قبضته » . والحسن ينصبها{[47724]} وخرَّجها ابن خالويه{[47725]} وجماعة{[47726]} على النصب على الظرفية أي «( في ){[47727]} قَبْضَتِهِ » .
ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود «في » . وهذا هو رأي البصريين ، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون : زَيْدٌ دَارَك- بالنصب- أي في دَارك{[47728]} ، وقال الزمخشري : جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم{[47729]} ، فوافق الكوفيِّين .
قوله : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ } العامة على رفع «مَطْوِيَّات » خبراً ، و «بِيَميِنِهِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق «بمطويات » .
الثاني : أنه حال من الضمير في «مَطْوِيَّاتٍ » .
الثالث : أنه خبر ثان{[47730]} ، وعيسى والجحْدري نصباها حالاً{[47731]} . واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو : زَيْدٌ قائِمٌ في الدار{[47732]} . وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين :
أظهرهما : أن يكون «السموات » نسقاً على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون «مطويات » حالاً من السموات ، كما كان جميعاً حالاً من الأرض و «بيمينه » متعلق «بمِطْوِيَاتٍ »{[47733]} .
والثاني : أن يكون «مطويات » منصوباً بفعل مقدر و «بِيَمِيِنِهِ » الخبر{[47734]} ، و «مَطْوِيَّات » وعامله جملة معترضة وهو ضعيف .
( فصل{[47735]}
لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموا الله حقَّ عظمته فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ، وروى البخاري أن حَبْراً من الأحْبَار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ويقول : أنا الملك فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نَوَاجِذُهُ تصديقاً لقول الحَبْر ثم قرأ : «وَمَا قَدَرُوا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة »{[47736]} وروى مسلم قال : والجبالُ والشجرُ على إصبع وقال : ثم يهزّهُنَّ فيقول : أنا المَلِكُ أنَا الله{[47737]} . وروى شيبةُ عن ابن أبي شَيْبَةَ بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يَطْوِي الله السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى ثم يقول : أَنَا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ أيْنَ المُتَكَبِّرُون »{[47738]} . ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
قال ابن الخطيب : وههنا سؤالات :
الأول : أن العرش أعظم من السموات السبع ، والأرضين السبع ، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }
[ الحاقة : 17 ] فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض ؟ !
السؤال الثاني : قوله تعالى : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } شرح حالاً لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله : «والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة » فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟ .
السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟ .
والجواب عن الأول : أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفضَها وإمساكها يوم القيامة عظيم ، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش .
والجواب عن الثاني : أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأَرَضِين من وجوه العِمَارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ، وذلك يدل على كمال الاستغناء .
والجواب عن الثالث : أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم{[47739]} .