قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : { فَانكِحُواْ } وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ ، والعشر ، ولا يقومون بحقوقهن ، فلمَّا نزلت { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يَتحرّجُونَ من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء ، فانكحوا هذا العدد ؛ لأنَّ الكَثْرَةَ تُفْضي إلى الجور ، ولا تنفع التوبةُ من ذنبٍ مع ارتكاب مثله .
والثاني : أن جوابه قوله : " فواحدة " ، والمعنى أنَّ الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته ، فلما نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرَّجوا من ذلك ، فقيل لهم : إن خفتم من نكاح النساء اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من [ النساء مثنى وثلاث ورباع من ]{[6440]} الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف ، أي : في نكاح يتامى النساء .
فإن قيل : " فواحدة " جواب لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فكيف يكون جواباً للأول ؛ فالجواب : أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى ، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه{[6441]} وفيه نظر لا يخفى . والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر .
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ{[6442]}
أي : أيقِنُوا ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى :
{ إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [ البقرة : 229 ] .
قوله : { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر ، أي : " مِنْ أن لا " ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [ أو جر ، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : " فَإنْ حَذَرْتم " فهي في محل نصب ]{[6443]} فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة .
وقرا الجمهور : " تقسطوا " بضم التاء ، من أقْسَط : إذا عدل ، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي : العدل .
وقرأ إبراهيم النخعي{[6444]} : ويحيى بن وثَّاب بفتحها من " قسط " وفيها تأويلان :
أحدهما : أن " قَسَطَ " بمعنى " جار " ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ ، والثلاثي بمعنى جار ، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى " أقسط " أي : أزال القسط وهو الجور ، و " لا " على هذا القول زائدة ليس إلا ، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد :29 ] .
والثاني : حكى الزجاج أن " قسط " الثلاثي يستعمل استعمال " أقسط " الرباعي ، فعلى هذا تكون " لا " غير زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة ؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة .
قالوا : قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ ، فبنوا " قسط " على بناء ظلم وجار وغلب .
وقال الراغب{[6445]} : " القِسْط " أن يأخذ قِسْطَ غيره ، وذلك جَوْرٌ ، وأَقْسَطَ غيره ، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقال : قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار ، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ ، قال تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
[ وقال تعالى : { وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] .
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير ، قال له : ما تقول فيَّ ؟ قال : " قَاسِطٌ عادل " فأعجب الحاضرون ، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً ، ألم تسمعوا قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }{[6446]} [ الجن : 15 ] . وقال تعالى : { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام :1 ] وقد تقدم الكلام على هذه المادة من قوله : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ }
قوله : { مَا طَابَ } في " ما " هذه أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن " ما " تكون للعاقل ، وهي مسألة مشهورة ، وذلك أن " ما " و " من " وهما يتعاقبان ، قال تعالى :{ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا }
[ الشمس : 5 ] وقال : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] .
وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان من سبح الرعد بحمده .
وقال بعضهم{[6447]} : نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله :{ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] .
قال بعضهم{[6448]} : وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول . وبعضهم يقول : هي لصفات من يعقل .
وبعضهم يقول : لنوع من يعقل كأنه قيل : النوع الطيب من النساء ، وهي عبارات متقاربة . فلذلك لم نعدّها أوجهاً{[6449]} .
الثاني : أنها نَكِرَةٌ موصوفة ، أي : أنكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً .
الثالث : أنها مصدرية ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل ، تقديره : فانحكوا [ الطَّيِّبَ .
وقال أبو حيان{[6450]} : والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل ، والمعنى فانكحوا ]{[6451]} النكاح الذي طاب لكم . والأول أظهر .
الرابع : أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة ، والتقدير : فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم{[6452]} . إذا تقرر هذا ، فإن قلنا : إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت " ما " مفعولاً ب " انكحوا " ويكون " من النساء " فيه وجهان :
أحدهما : أنها لبيان الجنس المبهم في " ما " عند مَنْ يثبت لها ذلك .
والثاني : أنها تبعيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من " ما طاب " وإن قلنا : إنها مصدرية ظرفية محضة ، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان{[6453]} كان مفعول " فانكحوا " قوله " من النساء " نحو قولك : أكلت من الرغيفِ ، وشربتُ من العسل أي : شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل .
فإن قيل : لِمَ لا يجعل على هذا " مثنى " وما بعدها هو مفعول " فانكحوا " أي : فانكحوا هذا العدد ؟ .
فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل .
وقرأ ابن أبي عبلة{[6454]} " مَنْ طَابَ " وهو يرجحُ كون " ما " بمعنى الذي للعاقل ، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء{[6455]} ، وهذا ليس بمبني للمفعول ؛ لأنه قاصر ، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة{[6456]} وهي قراءة حمزة .
اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله تعالى { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ }{[6457]} { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } . فقالت : يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها ، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة{[6458]} رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى عند نكاحهن } فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل اللهُ تعالى :
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنّ ] َ }{[6459]} [ النساء : 127 ] فالمراد منه هذه الآية ، وهن قوله { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } .
وقيل : لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم ، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو أكثر ، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل . فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء ، فقللوا عدد المنكوحات ؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله ، فكأنه لم يتحرّج ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك والسدي{[6460]} .
وقيل : لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، قاله مجاهد{[6461]} .
وقال عكرمة : هو الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام ، فإذا أنفق ماله على النسوة ، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق أموال اليتامى{[6462]} عليهن ، فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [ نكاح ] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف{[6463]} ، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس .
قال الواحدي والزمخشري{[6464]} : قوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] .
قال ابن الخطيب{[6465]} : وهذا فيه نظر ؛ لأن قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } هو أمر إباحة ، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله ، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم ، وذلك يخرج الآية من الفائدة ، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة ؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة ، وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً .
قوله " مَثْنَى " منصوب على الحال من " طَابَ " وجعله أبو البَقاء{[6466]} حالاً من " النساء " فأجاز هو وابن عطية{[6467]} أن يكون بدلاً من " ما " وهذان الوجهان [ ضعيفان ]{[6468]} .
أمَّا الأول : فلأنَّ الْمُحَدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله { من النِّسَاءِ } كالتبيين{[6469]} .
وأما الثاني : فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل ، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل .
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع ؟ قولان :
وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه .
والمسموع [ من ذلك ]{[6470]} أحد عشر لفظاً : أُحاد ، وَمَوْحَد ، وثُنَاء ، وَمَثْنَى ، وَثُلاَثَ ، وَمَثْلَث ، ورُباع ، وَمَرْبع ، ولم يسمع خُماس ومَخْمس ، وعَشار ومَعْشَر .
واختلفوا أيضاً في صَرْفِهَا وَعَدمِه ، وجمهورُ النحاةِ على منعه ، وأجاز الفراء صرفها ، وإن كان المنع عنده أولْى .
واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب :
أحدها : مذهب سيبويه ، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر ، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر .
فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ ، كان بمنزلة قولك : جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً ، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد ، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب باباً باباً .
والثاني : مذهب الفراء{[6471]} ، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع إضافتها عنده لتقدير الألف واللام ، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة .
الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث .
والرابع : نَقَلَهُ الأخفش{[6472]} عن بعضهم ، أنه تكرار العدل ، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين ، وعن معناه ؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : " جاءني مَثْنَى وثلاث " حتى يتقدم قبله جمع ؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل ، فإذا قلت : " جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى " ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين ، بخلاف غير المعدولة ، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره ؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى .
وقال الزمخشري{[6473]} : " إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن ؛ عدلها من صيغتها ، وعدلها عن تكررها ، وهن نكرات{[6474]} يُعَرَّفْنَ بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثْنَى والثلاث " .
قال أبو حيان{[6475]} : " ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحداً قاله ، بل المذهب فيه أربعة " ذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [ أبو حيان ]{[6476]} أيضاً في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين :
أحدهما : دخول " أل " عليها ، قال : " وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات " .
الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام : " صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " {[6477]} أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى : { أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وقوله : [ الطويل ]
. . . *** ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ{[6478]}
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله : [ الطويل ]
. . . *** بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ{[6479]}
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله : [ الوافر ]
ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ *** أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا{[6480]}
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس .
ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ ، لا تقول : " مثناة " ولا " ثُلاثة " بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً .
وقرأ النخعي وابن وثّاب{[6481]} " ورُبَعَ " من غير ألف ، وزاد الزمخشري عن النخعي{[6482]} : " وثُلَثَ " أيضاً ، وغيره عنه " ثُنَى " مقصوراً من " ثُناء " حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً ، كما حذفها الآخر في قوله : [ الرجز ]
. . . *** يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا{[6483]}
معنى قوله : { مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، والواو بمعنى " أو " للتخيير كقوله تعالى : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } [ سبأ : 46 ] وقوله :
{ أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
ذهبَ أكْثرُ الفقهاء إلى أن قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } لا يتناول العبد ؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طلب امرأة قَدِرَ على نكاحها ، والعبد ليس كذلك ؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ }
[ النحل : 75 ] ، فَيَنْفِي كونه مستقلاًّ بالنكاح .
وقال عليه السلام : " أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ عَاهِرٌ " {[6484]} .
وقال مالك : يجوز للعبد أن يتزوج أربعاً لظاهر الآية .
وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مختص بالأحرار ؛ لأن العبد لا ملك له ، وبقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده .
قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق .
وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد ، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك .
ذهبت{[6485]} طائفة فقالوا : يجوز التزويج بأيّ عدد شاء ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أمَّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ } إطلاق في جميع الأعداد ، بدليل أنه لا عدد إلاّ ويصح استثناؤه منه .
وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل .
الثاني : أن قوله : { مثنى وثلاث ورباع } لا يصلح مخصصاً لذلك العموم ؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج ؛ والحجر مطلقاً ، فإن الإنسانَ إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة ، وإلى البستان ، لم يكن تنصيصاً للإذن بتلك الأشْيَاء المذكورة فقط ، بل يكون ذلك إذناً في المذكور ، وغيره ، هكذا هنا .
الثالث : أن الواو للجمع المطلق ، فقوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } لا يدخل هذا المجموع ، وهو تسعة ، بل يفيد ثمانية عشر ؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا البقية .
الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام مات عن تسع ، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] وأقل [ مراتب ] الأمر الإباحة .
الثاني : أن التزويج بأكثر من أربع طريقه عليه الصلاة والسلام ، فيكون سنةً له .
وقال عليه الصلاة والسلام : " النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .
أجاب القدماء بما رُوِيَ " أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عليه الصلاة والسلام : " أمْسِكْ أربعاً وَفَارِقْ بَاقِيهنَّ " {[6486]} وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد ، وذلك لا يجوز .
الثاني : أن هذه واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنَّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي ؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز ، إمَّا لنسب أو رضاع ، أو اختلاف دين محرم ، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله .
واستدلوا أيضاً بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا أيضاً فيه نظر من وجهين :
أحدهما : أن الإجْمَاعَ لا يُنْسَخُ به فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية ؟
الثاني : أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار ، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين .
وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة ، فلا عبرة بمخالفته .
فإن قيل : إذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال : " مثنى أو ثلاث أو رباع " فلم جاء بواو العطف [ دون " أو " ] .
فالجواب : أنه لو جاء بالعطف ب " أو " لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام ، وألاَّ يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، وبعضهم بالتثليث ، والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسماً من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا هاهنا في ترك " أو " وذكر الواو .
قال مالك والشافعيُّ{[6487]} - رحمهما الله تعالى - " إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالماً " .
وقال الزُّهْرِيُّ{[6488]} : " يرجم إذا كان عالماً ، وإذا كان جاهلاً عليه أدنى الحدين ، الذي هو الجلد وهو مهرها ، ويفرَّق بينهما ولا يجتمعان أبداً " .
وقال النُّعْمَانُ : " لا حدّ عيه في شيء من ذلك " .
وقالت طائفة{[6489]} : " يحدُّ في ذات المحرم ، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح ، مثل أن يتزوج مجوسية ، أو خمساً في عقد ، أو تزوّج معتدة{[6490]} ، أو بغير شهود ، أو [ تزوج ]{[6491]} أمة بغير إذن مولاها " .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، جوابه " فواحدة " ، وقد تقدّم أن منهم من جعل " فواحدة " جواباً للأول وكررّ الثاني لما طال الفصل ، وجعل قوله : { فَانكِحُواْ } جملة اعتراض ، ويُعْزَى لأبي علي ، ولعله لا يَصِحُّ عنه .
قال أبو حيان{[6492]} : إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ } [ النساء : 129 ] ما أنتج [ من ]{[6493]} الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة ، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه ، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له ، بَلْ يكون لغواً على زعمه .
والجمهور على نصب " فواحدة " بإضمار فعل أي : فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت أيمانكم ، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين ؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين ، إلا أن يريد به الوطء في هذا ، والتزويج في الأول ، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقول به ، وهذا قريب من قوله : [ الرجز ]
عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً *** . . . {[6494]}
وقرأ الحسن{[6495]} وأبو جعفر : " فواحدةٌ " بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الرفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء ، والخبر محذوف أي : فواحدة كافية .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع{[6496]} واحدة .
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر أي : فيكفي واحدة .
و " أو " على بابها من كونها للإباحة أو التخيير . و " ما ملكت " كهي [ في قوله ] : " مَا طَابَ " [ فإن قيل : المالك هو نفسه لا يمينه ، فلِمَ ]{[6497]} أضاف المِلْك لليمين [ فالجواب ]{[6498]} لأنها محل المحاسن ، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد .
وروي عن أبي عمرو : " فما ملكت أيمانكم " ، والمعنى : إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه .
وقرأ ابن أبي عبلة{[6499]} " أو من ملكت أيمانكم " .
ومعنى الآية : إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة ، أو بالمملوكة .
قوله : " ذلك أدنى " مبتدأ وخبر ، و " ذلك " إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي .
و " أدنى " أفعل تفضيل من دنا يدنو أي : قرُب إلى عدم العول .
قال أبو العباس المقرئ : " ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى أحرى قال تعالى : { ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } .
والثاني : بمعنى " دون " قال تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }
[ البقرة : 61 ] يعني الرديء بالجيد " .
قوله تعالى : { أَلاَّ تَعُولُواْ } في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أن " بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : " إلى " أي : أدنى إلى ألا تعولوا .
والثاني : " اللام " والتقدير : أدنى لئلا تعولوا .
والثالث : وقدّره الزمخشريُّ{[6500]} من ألا تميلوا ؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله ، فما تعدى به فعله [ تعدى ]{[6501]} هو به ، وأدنى من " دنا " و " دنا " يتعدى ب " إلى " و " اللام " ، و " من " تقول : دنوت إليه ، وله ، ومنه .
وقرأ الجمهور : " تعولوا " من عال يعول إذا مال وجار ، والمصدر العول والعيالة ، وعال الحاكم أي : جار .
حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليَّ .
وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [ الطويل ]
. . . *** لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ{[6502]}
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] قال : " لاَ تَجُورُوا " {[6503]} .
وفي رواية أخرى " ألا تميلوا " {[6504]} .
قال الواحدي{[6505]} رحمه الله : " كلا اللفظين مرويّ ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول " .
وحكى ابن الأعرابي{[6506]} : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة ، والحاصل أن " عال " يكون لازماً ومتعدياً ، فاللازم يكون بمعنى : مال وجار ، والمتعدي ومنه " عال الميزان " .
بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغُلُّ شَعِيرَةً *** وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ{[6507]}
وعالت الفريضة إذا زادت سهامها ، ومعنى كثر عياله ، وبمعنى تفاقم الأمر ، والمضارع من هذا كله يَعُولُ ، وعال الرجل افتقر ، وعالَ في الأرض : ذهب فيها ، والمضارع من هذين يَعِيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل ، وبمعنى مانَ من المؤونة ، وبمعنى غَلَبَ ومنه " عيل صبري " ، ومضارع هذا كله يَعُول ، وبمعنى أعجز ، تقول : أعجزني الأمرُ ، ومضارع هذا يَعيل ، والمصدر " عَيْل " و " مَعِيل " ، فقد تلخص من هذا أن " عال " اللازم يكون تارة من ذوات الواو ، وتارة من ذوات الياء ، باختلاف المعنى ، وكذلك عال المتعدي أيضاً . ومنه : [ الطويل ]
وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ{[6508]} *** . . .
وفسَّر الشافعي رحمه الله { تَعُولُواْ } بمعنى يكثر عيالُكُم .
وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم{[6509]} .
قال الرازي{[6510]} : " هذا غلط من جهة المعنى واللفظ ، أما المعنى فلإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزوج ، وأما اللفظ ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء ؛ لأنه من العَيْلَةِ ، وأما عال بمعنى " جار " فمن ذوات الواو ، واختلفت المادتان ، وأيضاً فقد خالف المفسرين " .
وقال صاحبُ النظم : قال أولاً " ألاَّ تعدلوا " فوجب أن يكون ضده الجور .
وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسَرِي أيضاً يكثر معه العيال ، مع أنه مباح ممنوع ؛ لأن الأمة ليست كالزوجة ؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها ، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها .
قال الزمخشري{[6511]} : " وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك : عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك : مانَهم يَمُونهم أي : أنْفَقَ عليهم ؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق " ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً ، وقال : ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات{[6512]} ، انتهى .
وأما قولُهم : " خالف المفسرين " فليس بصحيح ، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد{[6513]} .
وأما قولهم : " اختلفت المادتان " فليس بصحيح أيضاً ؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب : عال الرجل يعول كثر عياله ، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال : يقالُ : عالَ الرَّجل يَعُولُ ، وأعال يعيل كثر عياله .
قال أبو حاتم{[6514]} : كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مِنَّا ، ولعلّه لغة ، ويقال : هي لغة " حمير " ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَر وأنشد [ الوافر ] :
وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ *** بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِى وَعَالا{[6515]}
أمشى : كثرت ماشيته ، وعَالَ كَثُرَ عياله ، ولا حجَّةَ في هذا ؛ لاحتمال أن يكون " عال " من ذَوَاتِ الياء ، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ " عال " يكون بمعنى كثر عياله ، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا ، ولا يُريدُ به أنَّ " تعولوا " وتعيلوا بمعنى ، بل قصد الكِنَايَة أيضاً ؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر .
وقرأ طلحة{[6516]} : " تَعيلوا " بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال : [ الوافر ]
فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ *** وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ{[6517]}
وقرأ طاوس{[6518]} : " تُعيلوا " بضمها من أعَالَ : كثر عياله ، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى .
وقال الرَّاغبُ : عَالَهُ ، وَغَالَهُ يتقاربان ، لكن الغَوْلَ : فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ .