لمَا أرشد كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ إلى المُعَاملة الحسنة [ مع الآخر ، أرشد في هَذهِ الآية إلى سَائِرِ الأخْلاَق الحَسَنة ]{[7799]} وذكر منها [ هَهُنا ]{[7800]} عَشْرَة أنْوَاع :
الأول : قوله - تعالى - : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ } قال ابن عبَّاسٍ : وَحِّدُوهُ{[7801]} ، واعلم أن العِبَادة عبارةٌ عن كل عَمَل يُؤْتَى به لمجَرَّد أمْر اللَّه - تعالى - بذلك ، ولما أمَر بالعبَادَةِ ، أمر بالإخلاصِ فيها : فقال{[7802]} { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } .
قال القرطُبي{[7803]} : ذكر بعض العُلَمَاء أن من تطهَّر [ تَبَرُّداً ]{[7804]} أو صام [ حميَّة ]{[7805]} لِمعدَتِهِ ، ويرى مع ذَلِكَ التَّقرُّب لم يُجْزِه ؛ لأنه مَزَج [ نية ]{[7806]} التَّقرُّب بنيَّة دُنْيَويَّة ، ولذا إذا أحسَّ الإمام بداخِلٍ وهو رَاكِعٌ لم يَنْتَظِرْه ، لأنه يُخْرِج ذكر [ الله ]{[7807]} بانتظاره عن كَوْنِه خالصاً - لله - تعالى .
ثم قال { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وتقدم الكلام على نظير هذا في البَقَرَةِ ، واتَّفقوا على أن ههنا مَحْذوفاً ، والتَّقْدير : " وأحسنوا بالوالدين إحساناً " ؛ كقوله : " فضرب الرقاب " أي : فاضْربُوها ، وقرأ ابن أبي عَبْلَة : " إحسان " بالرَّفع على أنَّه مُبْتَدأ ، وخبره الجَارّ [ والمجرور ]{[7808]} قَبْلَهُ .
والمراد بهذه الجُملَةِ : الأمر بالإحسان وإن كانت خبريةً ؛ كقوله - تعالى - :
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] .
قوله : { وَبِذِي الْقُرْبَى } فأعاد الباء ، وذلك لأنها في حق هذه الأمَّة ، فالاعتناء بها أكثر ، وإعادة الباء تدل على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا ، بخلاف آية البَقَرَة ، فإنَّها في حقِّ بني إسْرائيل ، والمراد الأمْر بصلَة الرَّحم ، كما ذكر في أول السُّورة بقوله : { وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] .
واعلم أن الوَالِدَيْنِ من القَرَابة أيضاً ، إلا أنَّهما لمّا تَخَصَّصَت قرابتهما بكَوْنِهمَا أقرب القَرَابات ، لا جرم{[7809]} خصّهما بالذِّكْر .
{ وَالْيَتَامَى } فاليتيم مَخْصُوص بنوعَيْن من العَجْز :
والثاني : عَدَمُ المُنْفِق ، ومن هذا حَالهُ كان في غَايَة العَجْزِ واستِحْقَاقِ الرحمة .
قوله { وَالْمَسَاكِينِ } فالمسْكين وإن كان عدِيم المالِ ، إلا أنَّه لكبره يمكنه أن يَعْرض حالَ نَفْسَه على الغَيْرِ ؛ فيجتلب به نَفْعَاً أو يدفعَ به ضرراً ، وأما اليتيمُ ، فلا قُدرة له ؛ فلهذا المعنى قدَّم الله اليتيم في الذِّكر على المِسْكِين ، والإحْسَان إلى المِسْكِين إما بالإجْمَالِ{[7810]} إلَيْهِ ، وإمّا بالرَّدِّ الجميل ، لقوله : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
وقوله : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } الجمهور على خفض الجارّ ، والمراد به القَرِيب النَّسِيب ، وبالجار الجُنُب : لبعيد النَّسِيب .
وعن مَيْمُون بن مَهْرَان : والجار ذِي القُرْبَى ، أُريد به الجارِ القريب{[7811]} ، قال ابن عطيَّة{[7812]} : وهذا خطأ ؛ لأنَّه على تأويله جمع بين{[7813]} ألَ والإضافة ، إذ كان وَجْه الكَلاَمِ : وجار ذي القُرْبَى [ الجار القريب ]{[7814]} ، ويمكن{[7815]} جوابُه على أن ذِي القُرْبَى ، بدل{[7816]} من الجارِّ على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : والجار ذِي القُرْبَى ؛ كقوله : [ الخفيف ] .
نَصَرَ اللَّهُ أعْظُماً دَفَنُوهَا *** بسجِسْتَانَ طَلحة الطَّلحَاتِ{[7817]}
أي : أعْظُم طَلْحَة ، [ ومن كلامهم ]{[7818]} : لو يعلمُون العِلْم الكبيرة سنه ، أي : علم الكبيرة سنّه ، فحذف البَدل لدلالة الكلام عليه .
وقرأ{[7819]} بعضهم : " والجار ذا القربى " نصباً ، وخرجه الزَمَخْشَرِي{[7820]} على الاخْتِصَاص لقوله - تعالى - :
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] والجُنُب صِفَة على فُعُل ، نحو : " ناقة سُرُح " ، ويَسْتَوي فيه المُفْرَدَ والمثَنَّى والجُمُوع ، مذكراً أو مؤنَّثاً ، نحو : " رجال جنب " وقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } [ المائدة : 6 ] ، وبعضهم يثنيه ويجمعه ، ومثله : شُلُل ، وعن عَاصِم{[7821]} : والجَار الجَنْبِ ، بفتح الجيم وسُكُون النون وهو وَصْفٌ أيضاً بمعنى المُجَانِب ، كقولهم : رجل عَدْل ، وألفُ الجَار عن واو ؛ لقولهم : تجاورُوا ، وجَاوَرْتُه ، ويُجْمَع على جيرة وجِيَران ، والجَنَابَةِ البُعْد ؛ قال [ الطويل ]
فَلاَ تَحْرمَنِّي نَائلاً عَنْ جَنَابَةٍ *** فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القبابِ غَريبُ{[7822]}
لأن الإنْسَان يُتركُ جَانباً ، ومنه { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن [ نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } ]{[7823]} [ إبراهيم : 35 ] ، وأصله من الجَنَابَة ، ضِدّها القَرَابَة ، وهو البُعْدُ ، يقال : رَجُلٌ جُنُبٌ ، إذا كان غريباً مُتَبَاعِداً عن أهله ، ورَجُل أجْنَبِيٌّ ، وهو البَعيد منك في القَرَابة ، ومنه الجَنَابَة من الجِمَاع ؛ لتباعده عن الطَّهَارَةِ وعن الصَّلاة حَتَّى يَغْتَسِل ، وهذان الجنبانِ ؛ لبُعْد كلِّ واحدٍ منهما عن الآخر .
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها - : " يا رسُول اللَّه ، إن لي جارَيْن ، فإلى أيهما أُهْدِي ، قال : إلى أقربِهِمَا منكِ باباً " {[7824]} ، وعن ابْن عُمر ؛ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جِبْريلُ يُوصِيني بالجَارِ ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ " {[7825]} ، وقال - عليه السلام - : " لا يَدْخُلُ الجَنَّة من لا يَأمَنْ جَارُهُ بَوائِقَهُ ، ألاَ وَإنَّ الجَوارَ أرْبَعُون " {[7826]} وكان الزهري{[7827]} يقول : أرْبَعُون يَمْنَة ، وأربعون يَسْرَة ، وأربعون أمَامَه ، وأرْبَعُون خَلْفه{[7828]} .
وعن بي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : " قيل : يا رسُول الله ، إن فُلانَة تَصُوم النَّهار وتصلي بالَّيْلِ ، وفي لِسَانِها شَيءٌ يؤذي جِيرانَهَا ، [ فقال : " لا يَحْفَظُ ]{[7829]} حق الجَارِ إلا مَنْ رَحم اللَّه ، وقليل ما هُم ، أتدرون ما حَقُّ الجَارِ : إن افْتَقَر أغْنَيْتَه ، وإن استقْرَضَ أقْرَضْتَه ، وإن أصابه خير هَنَّيْتَه ، وإن أصَابه شَرٌّ عَزَّيته ، وإن مَرِض عُدْتَه ، وإن مَاتَ شَيَّعْت جَنَازته " {[7830]} .
وقال نَوْف الشَّامِي{[7831]} : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } المُسْلِم ، [ والجار ]{[7832]} الجُنُب : اليَهُودي والنَّصْرَاني{[7833]} .
قال القرطبي{[7834]} : وعلى هذه فالوصاية بالجارِ ، مأمُورٌ بها مَنْدُوب إليها ، مسلِماً كان أو كَافِراً ، وهو الصَّحيح ، والإحْسَان قد يكون بِمَعْنَى المُوَاسَاة ، وقد يكون بِمَعْنَى حُسْن العِشْرَةِ ، وكَفّ الأذَى ، والمُحَامَاة دُونَه .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " الجيرَان [ ثلاثة : ]{[7835]} فجارٌ له ثلاثة حُقُوقٍ ، وجار له حَقَّان وجارٌ له حَقٌّ واحد " .
فأما الجار الَّذِي له ثلاَثَةُ حُقُوقٍ : فالجار{[7836]} القَريب المُسْلِم ، له حقُّ الجِوار ، وحق القَرَابَة ، وحَقّ الإسْلام .
والجارُ الذي له حَقَّان : فهو الجَار المُسْلِم فله حق الإسلام ، وحق الجِوَارِ .
والجار الذي له حَقٌّ واحد : هو الكَافِر ، له حق الجِوَار{[7837]} .
وقال بَعْضُ العُلَمَاءِ{[7838]} : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } هو القريب المَسْكَن منك ، { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } هو البعيد المَسْكَن منك .
قال القَرْطُبِي{[7839]} : وأحَاديثُ إكرامِ الجَارِ جاءت مُطْلَقَةٌ غير مُقَيَّدة ، حتى الكَافِر وفي الخبر " قالُوا : يا رسُول اللَّه ، أنطعمهم من لُحُوم النُّسُك ؟
قال : " لا تطعم المشركين من نسك المسلمين " {[7840]} فنهيه - عليه السلام - عن إطْعَام المُشْرِكين من نُسُك المُسْلِمِ ، يحتمل النُّسُك لوَاجب الذي لا يجُوزُ للنَّاسِك أن يَأكُل مِنْهُ ، ولا أن يُطْعِمَهُ الأغْنِيَاء ، فأما غير الوَاجِبِ الذي يُجْزِيه{[7841]} إطعام الأغنياء ، فيجوز{[7842]} أن يُطعِمَهُ أهْل الذِّمَّة قال - عليه الصلاة والسلام - لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها - عند تفريقِ لَحْمِ الأضحِيَة : " أهْدِي جَارَنَا اليَهُودِيّ " .
قوله : { وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ } قال مُجاهد ، وابن عَبَّاس ، وعِكرمة ، وقتادة : يعني : الرفيق في السَّفَر{[7843]} ، وقال عَلِيّ وعبد الله ، والنَّخعِي : وهو المرْأة{[7844]} تكون إلى جِنْبِهِ .
وقال ابن جُرَيْج ، وابن زِيْد : هو الذي يَصْحَبُك رجاء نَفعِك{[7845]} ، وقيل : هو الَّذِي صحبك إما رفيقاً في سَفَرٍ ، وإما جًاراً مُلاصِقاً ، وإما شريكاً في تَعَلُّم أو حرْفَة ، وإما قاعداً إلى جَنْبِك في مَجْلس وَاحِدٍ أو مَسْجِد أو غير ذلك ، من أدْنى صُحْبَة التأمَت بينك وبَيْنَه .
وقوله : { بِالجَنْبِ } في الباء وجْهَان :
أحدهما : أن تكون بمعنى " في " .
والثاني : أن تكون على بَابِها وهو الأوْلَى ، وعلى كلا التَّقْدِيرَيْن تتعلّق بمحذُوف ؛ لأنها حَالٌ من الصَّاحِبِ .
قوله : { وَابْنِ السَّبِيلِ } قيل : هو المُسافِرِ الذي انْقَطع عن بلده ، وقيل : هو الضَّيْف ، قال - عليه السَّلام - : " من كان يُؤمِن باللَّه واليَوْمِ الآخر فليُكْرِم ضَيْفَهُ " {[7846]} .
وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْْ } يجوز أن يُرَاد ب " ما " غير العَبِيد والإمَاء حَمْلاً على الأنْوَاع ؛ لقوله - تعالى - { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] وأن يكون أُريد جميع ما مَلَكَهُ [ الإنسان ]{[7847]} من الحَيَوانات ، فاختلط العَاقِلُ بغيره ، فأتى ب " ما " .
روت أمّ سَلَمة - رضي الله عنها - : " قالت : كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في مَرَضِه{[7848]} : " الصَّلاة وما ملكت أيمانكم " {[7849]} ، وقال - عليه السلام - : " هم إخْوَانكُم جَعَلهم الله تَحْتَ أيْدِيكم ، فمن جعل اللَّه أخَاه تحت يَده ، فَلْيُطْعِمْه ممّا يَأكُل ، وليلبسه مما يَلْبِس ، ولا يُكَلِّفْه من العَمَل ما يغلبه [ فإن كَلَّفَهُ مَن العَمَل مَا يغلبه ]{[7850]} فَلْيُعِنْهُ عليه " {[7851]} .
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } : المُخْتَال هو ذُو الخُيَلاَء والكِبْر .
قال أهل اللغة{[7852]} : هو التيَّاه ، والمُخْتَال اسم فاعِلٍ من اخْتَال يَخْتَال ، أي : تَكَبَّر وأعْجِب بنَفْسِهِ ، وألفهُ عن ياءٍ ؛ كقولهم : الخُيَلاَءُ والمَخِيلَة ، وسُمِع أيضاً : خَالَ الرَّجُل يخال{[7853]} خَوْلاً بالمعنى الأوَّل ، فيكون لهذا المَعْنَى مَادَّتَان خَيَلَ وَخَوَلَ .
قال ابن عبَّاس : " يريد المُخْتَال العَظِيم في نَفْسِهِ ، الذي لا يَقُوم بحقُوقُ أحَد " {[7854]} .
والفَخُور{[7855]} صيغة المُبَالَغَة ، وهو الَّذِي يعد مَنَاقِب نَفْسِه ومحاسنه ، وقال ابن عبَّاس : الفَخُور الذي يَفْخَر على عِبَاد الله بما أعْطَاه من أنْواع نِعَمِهِ .
وقال - عليه السلام - : " بينما رجل يتبختر في بردين ، وفد أعْجَبَتْه نَفْسُه ، خسف الله به الأرْض ، فهو يتجْلجَل فيها إلى يَوْم القِيَِامَة " {[7856]} .
وقال - عليه السلام - : " لا يَنْظُر اللَّه إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيْلاَء يوم القِيامَة " {[7857]} .