اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

قد تقدَّمَ الكلامُ على مِثْل قوله : " ألم تر " ، وقوله : " بل " ، إضْرَابٌ عَنْ تزكيتهم أنفُسَهُم ، وقدّر أبُو البقاء{[8225]} قبل هذا الإضراب جُمْلَةً ؛ قال : تقديرهُ : أخْطؤوا ، { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ } .

[ وقوله : " ولا يظلمون " ، يجوزُ أنْ يكونَ حَالاً ممَّا تقدَّم ، وأنْ يكون مُسْتَأنفاً ، والضميرُ في " يظلمون " يجوزُ أنْ يعود على " من يشاء " ]{[8226]} أيْ : لا يُنْقِصُ مِنْ تزكيتهم شيئاً ، وإنَّما جَمَعَ الضميرَ ؛ حَمْلاً على مَعْنى " من " وأنْ يَعُودَ على الذين يُزَكونَ ، وأنْ يعُودَ على القَبِيليْن مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ ، وَمَنْ زَكَّاهُ اللَّه ، فَذَاكَ لاَ يُنْقِصُ من عقابه شَيْئاً ، وهذا لا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئاً ، والأوَّلُ أظْهَرُ ؛ لأن " من " أقَرْبُ مَذْكُورٍ ، ولأنَّ " بل " إضرابٌ مُنْقطعٌ{[8227]} ما بَعْدَهَا عمَّا قَبْلَهَا .

وقال أبُو البَقَاءِ{[8228]} : ويجوزُ أن يكُونَ مُسْتأنَفاً ، أيْ : منْ زَكَّى نَفْسَه ، ومَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ . انتهى .

فجعل عودَ الضميرِ على الفَريقَيْنِ ؛ بِناءً على وَجْهِ الاسْتِئْنافِ ، وهذا غيرُ لازِمٍ [ بل ]{[8229]} يجوزُ عودهُ عَلَيْهِمَا ، والجملةُ حَالِيَّةٌ .

و { فَتِيلاً } مَفعُولٌ ثانٍ ؛ لأن الأولَ قامَ مَقَامَ الفاعِلِ ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَعْت مَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، كما تقدَّمَ تقديره في : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، والفَتِيلُ : خَيْطٌ رَقيقٌ في شِقِّ النَّوَاة [ يَضْرَبُ به المَثلُ في القِلَّةِ ، قالَهُ ابنُ السِّكيتِ ، وغيرُهُ .

وقيل : هو مَا خَرَجَ مِنْ بيْن إصْبَعَيْكَ ، أو كَفَّيْكَ مِنَ الوَسَخ ]{[8230]} حين تَفْتُلُهُمَا{[8231]} ، فهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ ، وقد ضرب العَرَبُ المثلَ في القِلّةِ التافِهَةِ بأربَعةِ أشْيَاء ، اجتمعْتَ في النواةِ ، وهي : الفَتِيلُ ، والنَّقِيرُ : وهو النُّقْرَةُ التي في ظهر النَّواةِ ، والقِطْميرُ : هو القِشْرُ [ الرقيقُ ]{[8232]} فوقها [ وهذه الثلاثةُ واردَةٌ في الكتابِ العزيز ، والثُّفْروق : وهو ما بيْنَ النواةِ والقِمْع ]{[8233]} الَّذِي يكُونُ في رَأسِ التَّمرة كالعلاقَةِ بَيْنَهُمَا .

فصل

لما هَدّد{[8234]} اليهود بأنه تعالى{[8235]} لا يغفرُ أنْ يشركَ به ، قالوا : لَسْنَا منَ المشركينَ ، بل نحنُ مِنْ خَوَّاصِّ اللَّهِ .

قال الكَلْبيُّ{[8236]} : " نزلت هذه الآيةُ في رِجَالٍ مِنْ اليهودِ : منهم " بَحْرى بنُ عُمَرَ " ، و " النُّعْمانُ بنُ أوْفَى " ، و " مَرْحَبُ بنُ زَيْدٍ " أتَوْا بأطْفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالُوا : يا محمدُ [ هَلْ ]{[8237]} على هَؤلاءِ مِنْ ذنْبٍ ؟ فقال : لاَ ، قالوا : ما نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئتهم ، ما عَمِلْنَا بالنهار ، يُكَفَّر{[8238]} عنّا بالليل ، وما علمنا بالليل ، يكفرُ عنَّا بالنهار ، فنزلت هذه الآيةُ .

وقال مُجاهِدٌ ، وعكْرمة{[8239]} : كانُوا يُقدِّمُونَ أطْفَالَهُم في الصلاةِ ، يَزْعمُوَن أنَّهم لا ذُنُوبَ لَهُم ، فتِلْكَ التزكيةُ{[8240]} .

وقال الحَسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، ومقاتلٌ : نزلت في اليهودِ ، والنصارى ، حينَ قَالُوا :

{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى }{[8241]} [ البقرة : 111 ] .

قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ : هو تزكيةُ بعضِهم لِبَعضٍ{[8242]} .

فصل

التَّزْكِيَةُ - ها هنا - عِبارةٌ عنْ مَدْح الإنْسَانِ نَفْسَهُ .

قال تعالى :{ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } والتَّقْوَى : لا يَعْلَمُ حقيقتَها إلاَّ الله تعالى .

فإن قيل : ألَيْسَ قد قال - عليه الصلاة والسلام - : " واللَّهِ ، إنّي لأمِينٌ في السَّماءِ ، وأمِينٌ في الأرْضِ " {[8243]} .

فالجوابُ : إنَّما قال ذلك حين قال المنافِقُون له : اعدِلْ في القِسْمة ؛ ولأنَّ الله تعالى لمَّا زكَّاهُ أوَّلاً بِقِيَامِ المعْجزةِ ، جاز له ذَلِكَ ، بخلافِ غيرِه .


[8225]:ينظر: الإملاء 1/183.
[8226]:سقط في أ.
[8227]:في أ: فيقطع.
[8228]:ينظر: الإملاء 1/183.
[8229]:سقط في ب.
[8230]:سقط في ب.
[8231]:في أ: حتى يفتلها.
[8232]:سقط في ب.
[8233]:سقط في أ.
[8234]:في ب: حدد.
[8235]:في ب: بأن الله.
[8236]:ينظر: تفسير البغوي 1/440.
[8237]:سقط في أ.
[8238]:في ب: كفر.
[8239]:ينظر: معالم التنزيل 1/440.
[8240]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/453) عن مجاهد وأبي مالك وعكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/304) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.
[8241]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/452) عن الحسن والضحاك وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/304) عن الحسن وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق. ومعالم التنزيل 1/440.
[8242]:ينظر: معالم التنزيل 1/440.
[8243]:انظر إتحاف السادة المتقين (5/239) والشفا للقاضي عياض (1/3269).