اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ} (30)

قوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ } من رؤية البصر ؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز . وقال ابن الخطيب : الإرَاءَةُ{[51514]} هنا بمعنى التعريف .

قوله : «فَلَعَرَفْتَهُمْ » عطف على جواب «لو » وقوله : «وَلَتَعْرفنَّهُمْ » جواب قسم محذوف .

قال المفسرون : معنى الكلام : لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ : بعلامتهم . قال الزجاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها{[51515]} . قال «أنس » : فأخفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم{[51516]} .

قوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } أي في معناه ومقصده . واللحن يقال باعتبارين :

أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك{[51517]} . ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي ( رحمه الله ){[51518]} في حكاية له :

4487 وَلَقَدْ وَحَيْتُ{[51519]} لكيْمَا تَفَهْمُوا *** وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ{[51520]}

وقال آخر :

4488 وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ{[51521]} وَتَلْحَن أحْيَا *** ناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا{[51522]}

واللَّحْنُ : صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ . وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه . يقال من الأول : لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَحنٌ . وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن{[51523]} . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ{[51524]} بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ »{[51525]} .

ويقال من الثاني : لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ .

فصل

معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ . قال ابن الخطيب : معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم ، وكأن قائلاً قال : فِلمَ لَمْ يُظْهر ؟ فقال : أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف .

وقوله : «فَلَعَرفتهُمْ » لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال : عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا : فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف . واللام في قوله : «فلعرفتهم » هي التي تقع في خبر «لو » كما في قوله : «لأَرَيْنَاكَهُمْ » أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال : ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده . وقوله : { فِي لَحْنِ القول } أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه{[51526]} النفاق ، كقولهم حين مجيء النصر : { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } [ العنكبوت : 10 ] وقولهم : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] وقولهم : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [ الأحزاب : 13 ] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم يعتقدوا فأمالوا كلامهم كما قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون } [ المنافقون : 1 ] .

ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه الصلاة والسلام{[51527]} ولا يفهمه ( غيره{[51528]} . فالنبي عليه صلى الله عليه وسلم كان يعرف ) المنافقين ولم يظهر أمرهم ، إلى أن أذن الله له في إظهار أمرهم ، ومنع من الصلاة على جنائزهم ، والقيام على قبورهم .

«بِسيماهُمْ » الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ }{[51529]} [ يس : 67 ] . وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى : { والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين{[51530]} .


[51514]:مصدر أرى على زنة أفعل فالأصل (أرأى) انظر الرازي 28/69.
[51515]:معاني القرآن 5/15.
[51516]:القرطبي 16/252.
[51517]:القرطبي 16/252.
[51518]:زيادة من أ.
[51519]:في اللسان: لحنت باللام.
[51520]:له من الكامل وشاهده: أن خير الكلام ما عرف بالمعنى ولم يصرح به وانظر اللسان لحن 4013 والسراج المنير 4/33 ومجاز القرآن 2/25 لحن والكشاف 3/538 وعجزه في الكشاف: واللحن يعرفه ذوو الألباب وانظر في مجمع البيان 9/159.
[51521]:في القرطبي: رائع.
[51522]:من الخفيف لمالك بن أسماء الفزاري وهو وما قبله في القرطبي 16/252 و253. والشاهد: أن اللحن معناه الفهم للمخاطب لا لغيره. وانظر مجمع البيان 9/159 وفتح القدير 5/40 والنوادر لأبي زيد، واللسان لحن 4013.
[51523]:اللسان السابق.
[51524]:أي أفطن وأجدل.
[51525]:اللسان السابق والقرطبي 16/252.
[51526]:في الرازي: معناه النفاق كـ "أ" هنا. وفي ب منعنا من المنع.
[51527]:في ب: صلى الله عليه وسلم.
[51528]:ما بين القوسين سقط من ب.
[51529]:وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي 28/19، 70.
[51530]:السابق.