اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

مدنية{[1]} . وهي تسع وعشرون آية ، وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا .

روى زيد بن أسلم عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه قال عمر : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت{[2]} أن سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسل الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت{[3]} علي الليلة سورة ليس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وروى أنس قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا لك . . . إلى آخر الآية مرجعه{[4]} من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال : نزلت{[5]} علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم : هنيئا مريئا قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } حتى ختم الآية .

قوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد : فتح خيبر . والأكثرون على أنه فتح الحديبية ، وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان . وقيل : الفتح الحكم لقوله تعالى : { افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وقوله : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } [ سبأ : 26 ] . فمن قال : هو فتح مكة قال : لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه :

أحدهما : أنه تعالى لما قال : { هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } إلى أن قال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة ، وغَنِموا ديارهم ، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم .

وثانيها : لما قال : «واللهُ مَعكُمْ » وقال : «وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ » بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون .

وثالثها : لما قال تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين .

فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال : فتحنا بلفظ الماضي ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا{[51591]} .

والثاني : ما قدره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له .

وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء{[51592]} قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي{[51593]} صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد . ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا{[51594]} . قال الشعبي في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال : فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأطعموا نَخْل خيبر ، وبلغ الهديْ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهر أهل الكتاب على المَجُوسِ . قال الزهري : ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام{[51595]} ، قال المفسرون : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً{[51596]} .

/خ3


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[51591]:كذا في الرازي وفي ب وتدبيرنا. وكلتاهما قريبتان.
[51592]:هو البراء بن عازب وقد مر ترجمته.
[51593]:في ب مع الرسول.
[51594]:انظر القرطبي 16/260.
[51595]:بالمعنى من القرطبي المرجع السابق.
[51596]:قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 5/19.