اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

قوله ( تعالى{[51954]} ) : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد ، كقول لقمان لابنه : { يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] { يا بني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } [ لقمان : 16 ] { يا بني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] ، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك . ومنها : أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول ، فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو ، فإذا أعادة مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا ( يا زيد{[51955]} قل كذا ( وقل كذا ) ) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً . ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك : يَا زَيْدُ لا تَنْطٌق ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول : يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين .

فصل

قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام ، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة ؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية . ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم{[51956]} مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له ، وإن سأل فإن النبي صلى الله عليه وسلم{[51957]} لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل ، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .

ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم ، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الخطاب . والأول أوضح والكل يدخل في المراد{[51958]} . قال المفسرون : معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً{[51959]} . روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه{[51960]} ) قال : «لما نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته ، وقال : أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بْنَ معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى ؟ فقال سعدٌ : إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثابتٌ : أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من أهل الجنة » .

وروى لما نزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال : «ما يُبكِيكَ يا ثابتُ ؟ . قال : هذه الآية أتخوف أن تكونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها : إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال : لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصمٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال : اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجدْه ، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ في بيت الفرس فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال له : اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُبْكِيكَ يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة ؟ فقال : رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله ، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم » فأنزل الله { إن الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } الآية . قال أنس : فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفةٌ منهم فقال : أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له : اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزعَ درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن ( به{[51961]} ) في طِوَله ، وقد وضع على درعي بُرْمَةً ؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُلْ له : إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ ( عنِّي{[51962]} ) ، وفلان ( وفلان{[51963]} ) من رقيقي عتيق . فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا ، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ .

قال مالك بن أنس ( رضي الله عنه{[51964]} ) : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه{[51965]} .

قوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } قال ابن الخطيب : إن قلنا : ( إن{[51966]} ) المراد من قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله : «ولاَ تَجْهَرُوا » يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صلى الله عليه وسلم{[51967]} بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله : «لاَ تَجْهَرُوا » أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو ( نَ{[51968]} ) غيره .

واعلم أن قوله تعالى : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء ، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه : { يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] ، وقوله : { يا بني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح ، فقوله : { يا بني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } [ لقمان : 17 ] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح .

فإن قيل : ما الفائدة من قوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول } مع أن الجهر مستفاد من قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } ؟ .

فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم{[51969]} أو صوته ، والنهي عن الجهر منع من المساواة ، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو( نَ{[51970]} ) لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عُلْيَا{[51971]} .

قوله : «أنْ تَحْبَطَ » مفعول من أجله . والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله : «لاَ تَرْفَعُوا » و«لاَ تَجْهَرُوا لَهُ » يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم ، وللأول عند الكوفيين . والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ{[51972]} .

وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورةِ{[51973]} و{ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حال .

فصل

معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ . وقوله : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غايةَ{[51974]} الخَوف ، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر ، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين .

فقوله : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة ؛ لأن الأمر غير معلوم بل احْسُموا الباب{[51975]} .


[51954]:زيادة من أ.
[51955]:ما بين القوسين الكبيرين زيادة على الرازي وما بين القوسين الصغيرين هما اللذان في ب.
[51956]:في ب عليه الصلاة والسلام.
[51957]:في ب عليه الصلاة والسلام كذلك.
[51958]:وانظر تفسير الإمام 28/112 و113.
[51959]:قاله البغوي في تفسيره 6/219.
[51960]:زيادة من أ.
[51961]:ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما 6/219.
[51962]:ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما 6/219.
[51963]:ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما 6/219.
[51964]:زيادة من أ.
[51965]:المرجعين السابقين.
[51966]:زيادة من أ كالرازي تماما.
[51967]:في ب عليه الصلاة والسلام.
[51968]:النون ساقطة من النسختين ولا بد منها.
[51969]:في ب عليه الصلاة والسلام.
[51970]:في ب تجهروا.
[51971]:قال بهذا الإمام في تفسير الكبير 28/113.
[51972]:قاله أبو حيان في البحر 8/106.
[51973]:وهي لام العاقبة قال: أو لا تخبط على أن تكون اللام لا العاقبة. انظر التبيان 1170.
[51974]:الرازي المرجع السابق. وفيه هكذا وفي ب عليه.
[51975]:الرازي السابق.