قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ " ما " منصوبةٌ بالقول ؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول . وقدَّر أبو البقاء{[13]} القول بمعنى الذكر والتأدية . و " ما " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً .
قوله تعالى : " أن اعبُدوا " في " أنْ " سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في " به " والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا ، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار " أعني " ، أي : إنه فسَّر ذلك المأمور به .
الثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ " به " في { ما أمرتني به } لأن محلَّ المجرور نصب .
الرابع : أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ .
الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به .
السادس : أنها بدلٌ من " ما " نفسها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا .
السابع : أنَّ " أنْ " تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي{[14]} . وممن ذهب إلى جواز أنَّ " أنْ " بدلٌ مِنْ " ما " فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج{[15]} ، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري ، وأبو البقاء{[16]} منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ، وبدلاً من " ما " أو من الهاء في " به " . قال - رحمه الله - : " أنْ " في قوله : { أن اعبدوا الله } إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له ؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى ، فلو فسَّرْتَه ب { اعبدوا الله ربي وربكم } لم يستقم لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من " ما " في { ما أمرتني به } ، أو من الهاء في " به " ، وكلاهما غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال ، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أقَمْتَ " أن اعبدوا " مقام الهاء [ فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته ، فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره ب { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ، ويجوزُ أن تكون " أنْ " موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .
وتعقَّب عليه أبو حيان{[17]} كلامه فقال : " أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [ وقوله : " لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم " فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : " اعبدوا الله " ويكون " ربي وربكم " من كلام عيسى على إضمار " أعني " أي : " أعني ربي وربكم " ، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده ، وأمّا ] قوله : " لأن العبادة لا تُقال " فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي : القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى ، وأمَّا قوله " لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته " فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : " زيد مررت به أبي عبد الله " ولو قلت : " زيدٌ مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قوله : " عطفاً على بيان الهاء " ففيه بُعْد ، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد " إلا " ، وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب ، و " أن " التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب " . انتهى .
قال شهاب الدين{[18]} : أمَّا قوله : " إن ربي وربكم من كلام عيسى " ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام ، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ " ربي " تابعٌ للجلالة ؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدُّ من قولهم " يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه " فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ " اعبدوا الله " من كلام الله تعالى و " ربي وربكم " من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ ل " أمرتَ " المسند للباري تعالى . وأمَّا قوله " يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف " ففيه بعض جودة ، وأما قوله : " إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم " واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم ، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز " جاء الذي مررت به أبي عبد الله " بجرِّ " عبد الله " بدلاً من الهاء ، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : " لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه " فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم ، قال شهاب الدين{[19]} رحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى . وأمَّا قوله : " وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى به إلى آخره " فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .
ويجوز في " أنْ " الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله : " فَمَنِ اضْطُرَّ " في البقرة [ الآية 173 ] . و " ربي " نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسة [ أوجهٍ ] تقدَّم إيضاحُها .
قوله : " شهيداً " خبر " كان " ، و " عليهم " متعلق به ، و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و " دام " صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان ، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة ، ويكون " فيهم " متعلقاً بها ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ، فلم يحتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون " فيهم " في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدة دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : " دِمْتُ تدام " كخِفْتُ تخاف . قوله : { كنت أنت الرقيب عليهم } يجوز في " أنت " أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً . وقرئ{[20]} " الرقيبُ " بالرفع على أنه خبر ل " أنت " والجملةُ خبرٌ ل " كان " ، كقول القائل : [ الطويل ]
. . . *** وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ{[21]}
وقد تقدَّم اشتقاق " الرقيب " . و " عليهم " متعلَّقٌ به . و " على كلِّ شيء " متعلِّقٌ ب " شهيد " قُدِّمَ للفاصلة .
معنى الكلام { وكُنتُ عليهمْ شَهِيداً } أي : كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون ، ما دمتُ مُقِيماً فيهم ، " فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي " والمرادُ منهُ : الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] .
و { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، قال الزجاج{[22]} : الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم .
فالشَّهِيدُ : المُشاهِد ، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة ، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة ، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.