اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ " ما " منصوبةٌ بالقول ؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول . وقدَّر أبو البقاء{[13]} القول بمعنى الذكر والتأدية . و " ما " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً .

قوله تعالى : " أن اعبُدوا " في " أنْ " سبعةُ أوجهٍ :

أحدها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في " به " والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا ، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض .

الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار " أعني " ، أي : إنه فسَّر ذلك المأمور به .

الثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ " به " في { ما أمرتني به } لأن محلَّ المجرور نصب .

الرابع : أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ .

الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به .

السادس : أنها بدلٌ من " ما " نفسها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا .

السابع : أنَّ " أنْ " تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي{[14]} . وممن ذهب إلى جواز أنَّ " أنْ " بدلٌ مِنْ " ما " فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج{[15]} ، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري ، وأبو البقاء{[16]} منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ، وبدلاً من " ما " أو من الهاء في " به " . قال - رحمه الله - : " أنْ " في قوله : { أن اعبدوا الله } إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له ؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى ، فلو فسَّرْتَه ب { اعبدوا الله ربي وربكم } لم يستقم لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من " ما " في { ما أمرتني به } ، أو من الهاء في " به " ، وكلاهما غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال ، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أقَمْتَ " أن اعبدوا " مقام الهاء [ فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته ، فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره ب { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ، ويجوزُ أن تكون " أنْ " موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .

وتعقَّب عليه أبو حيان{[17]} كلامه فقال : " أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [ وقوله : " لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم " فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : " اعبدوا الله " ويكون " ربي وربكم " من كلام عيسى على إضمار " أعني " أي : " أعني ربي وربكم " ، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده ، وأمّا ] قوله : " لأن العبادة لا تُقال " فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي : القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى ، وأمَّا قوله " لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته " فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : " زيد مررت به أبي عبد الله " ولو قلت : " زيدٌ مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قوله : " عطفاً على بيان الهاء " ففيه بُعْد ، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد " إلا " ، وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب ، و " أن " التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب " . انتهى .

قال شهاب الدين{[18]} : أمَّا قوله : " إن ربي وربكم من كلام عيسى " ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام ، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ " ربي " تابعٌ للجلالة ؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدُّ من قولهم " يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه " فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ " اعبدوا الله " من كلام الله تعالى و " ربي وربكم " من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ ل " أمرتَ " المسند للباري تعالى . وأمَّا قوله " يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف " ففيه بعض جودة ، وأما قوله : " إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم " واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم ، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز " جاء الذي مررت به أبي عبد الله " بجرِّ " عبد الله " بدلاً من الهاء ، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : " لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه " فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم ، قال شهاب الدين{[19]} رحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى . وأمَّا قوله : " وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى به إلى آخره " فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .

ويجوز في " أنْ " الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله : " فَمَنِ اضْطُرَّ " في البقرة [ الآية 173 ] . و " ربي " نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسة [ أوجهٍ ] تقدَّم إيضاحُها .

قوله : " شهيداً " خبر " كان " ، و " عليهم " متعلق به ، و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و " دام " صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان ، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة ، ويكون " فيهم " متعلقاً بها ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ، فلم يحتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون " فيهم " في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدة دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : " دِمْتُ تدام " كخِفْتُ تخاف . قوله : { كنت أنت الرقيب عليهم } يجوز في " أنت " أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً . وقرئ{[20]} " الرقيبُ " بالرفع على أنه خبر ل " أنت " والجملةُ خبرٌ ل " كان " ، كقول القائل : [ الطويل ]

. . . *** وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ{[21]}

وقد تقدَّم اشتقاق " الرقيب " . و " عليهم " متعلَّقٌ به . و " على كلِّ شيء " متعلِّقٌ ب " شهيد " قُدِّمَ للفاصلة .

فصل

معنى الكلام { وكُنتُ عليهمْ شَهِيداً } أي : كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون ، ما دمتُ مُقِيماً فيهم ، " فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي " والمرادُ منهُ : الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] .

و { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، قال الزجاج{[22]} : الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم .

فالشَّهِيدُ : المُشاهِد ، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة ، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة ، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ .


[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.