اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَفِي مُوسَىٰٓ إِذۡ أَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ} (38)

قوله تعالى : { وَفِي موسى } فِيهِ أوجه :

أظهرها : أنه عطف على قوله : «فِيهَا » بإعادة الجار ؛ لأنَّ المعطُوفَ عَلَيْهِ ضميرٌ مجرورٌ فيتعلق ب «تَرَكْنَا » من حيث المعنى{[52899]} ويكون التقدير : وتَرَكْنَا في قصةِ موسى آية . وهذا واضح .

والثاني : أنه معطوف على قوله : { فِي الأرض آيَاتٌ } أي وفي الأرض وفي موسى آياتٌ للموقنين . قاله الزمخشري{[52900]} وابنُ عطية{[52901]} .

قال أبو حيان : وهذا بعيد جدًّا يُنَزَّه القرآن عن{[52902]} مثله .

قال شهاب الدين : وجه استبعاده له بعد ما بينهما ، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلكَ{[52903]} .

والثالث : أنه متعلق ب «جَعَلْنَا » مقدرة ، لدلالة : «وَتَرَكْنَا » عليه .

قال الزمخشري : أو على قوله - يعني أو يعطف على قوله - : { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً } على معنى وجعلنا في موسى آية{[52904]} كقوله :

عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[52905]}

قال أبو حيان : ولا حاجة إلى إضمار : «وَجَعَلْنَا » لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور «وتركنا » .

قال شهاب الدين : والزمخشري إنما أراد الوجه الأول بدليل قوله : «وَفِي مُوسَى » معطوف على «وَفِي الأَرْضِ » ، أو على قوله : «وَتَرَكْنَا فِيهَا » وإنما قال : على جهة تفسير المعنى لا الإعراب . وإنما أظهر الفعل تنبيهاً على مغايرة الفعلين يعني أن هذا الترك غير ذاك الترك ، ولذلك أبرزه بمادة الجَعْل دون مادة الترك ليظهر{[52906]} المخالفة .

الرابع{[52907]} : أن يعطف على { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } تقديره : وفي حديث موسى إذْ أَرْسَلْنَاهُ . وَهُوَ مناسب ، لأن الله تعالى جمع كثيراً بين ذكر إبراهيم وموسى - عليهما الصلاة والسلام - ( كقوله تعالى ){[52908]} : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفّى } [ النجم : 36 - 37 ] ، وقال : { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 19 ] قاله ابن الخطيب{[52909]} .

فصل

المعنى : لك{[52910]} في إبراهيم تسلية وفي موسى ، أو لقومك في لوط وقومه عبرة ، وفي موسى وفرعون ، أو تَفَكَّرُوا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون . هذا إن عطفناه على ( معْلُوم{[52911]} ، وإن عطفناه ) على مذكور فقد تقدم آنفاً . و«السلطان المبين » الحجة الظاهرة{[52912]} .

قوله : «إذْ أَرْسَلْنَاهُ » يجوز في هذا الظرف ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون منصوباً ب «آيَة » على الوجه الأول ؛ أي تركنا في قِصة موسى علامةً في وقتِ إرسالنا إيَّاهُ .

الثاني : أنه يتعلق بمحذوف لأنه نعت لآيةٍ ، أي آية كائنة في وقت إرسالنا .

الثالث : أنه منصوب ب «تَرَكْنَا » .

قوله : «بِسُلْطَانٍ » يجوز أن يتعلق بنفس الإرسال ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال إما من موسى وإما من ضميره أي ملتبساً بسُلطان وهو الحُجَّة{[52913]} . و«المبين » الفارق بين سِحْر السَّاحِرِين وأمْر المُرْسَلِينَ .

ويحتمل أن يكون المراد بالمبين أي البراهين القاطعة التي حَاجَّ بِهَا فِرْعَوْنَ{[52914]} .


[52899]:وهو ظاهر كلام أبي البقاء في التّبيان 1181 وأبي حيان في البحر المحيط 8/140.
[52900]:الكشاف 4/19 وهو أحد قوليه والقول الأول السابق.
[52901]:البحر المحيط 8/140.
[52902]:المرجع السابق.
[52903]:الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 110.
[52904]:الكشاف 4/19.
[52905]:صدر بيت من الرجز وعجزه: ................ *** حتى شتَت همّالة عيناها وهو لذي الرمة، وهو من شواهد الخصائص 2/431 والإنصاف 613 وابن يعيش 2/8 والغني 632 وشرح شواهده للسيوطي 314 وشذور الذهب 299 والتصريح 1/246 والهمع 2/130 والأشموني 2/140 واللسان: "ق ل د" وليس في ديوانه ولا في ملحقاته لكن صدره في الملحقات مع شطر آخر وسابق له وقال البغدادي في الخزانة: ففتشت ديوانه فلم أجده فيه وهو في البحر المحيط 8/140 والكشاف 4/19 وفي تأويل المشكل 213. وهمالة من قولهم: هَمَلت عين فلان إذا أرسلت دمعها إرسالا. والشاهد: "وماء" فهو ليس معطوفا على تِبناً لكون العامل في المعطوف عليه لا يصح تسليطه على المعطوف مع بقاء معنى هذا العامل على حاله.
[52906]:الدر المصون المرجع السابق.
[52907]:قال بهذا الوجه -وبالأوجه السابقة أيضا- الإمام الرازي في تفسيره 28/220.
[52908]:زيادة من ب.
[52909]:المرجع السابق.
[52910]:كذا في النسختين وفي الرازي: ذلك.
[52911]:ما بين القوسين سقط من ب.
[52912]:وانظر: الرازي السابق 28/220.
[52913]:نقل المؤلف هذه الإعرابات بتفصيل وتوضيح من أبي البقاء في التبيان 1181.
[52914]:الرازي المرجع السابق.