قوله : { والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وكذلك قوله : { والأرض فَرَشْنَاهَا } والتقدير : وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا . وقال أبو البقاء : أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا{[52976]} فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر . وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو : زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً .
وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما{[52977]} ؛ على الابتداء ، والخبر ما بعدهما . والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها .
قوله : «بأَيْدٍ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان :
أحدهما : أنها حال من فاعل «بَنَيْنَاهَا » أي ملتبسينَ بأيدٍ{[52978]} أي بقوة ؛ قال تعالى : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيدِ } [ ص : 17 ] .
الثاني : أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة . ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا . ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها ، كقولك : بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ .
قوله : «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «بَنَيْنَاهَا » . ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول «موسِعُون » محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا . ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ ؛ لأن معناه : لَقَادِرُونَ كقولك : ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي ؛ كقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خَلْقِنَا .
وقيل : ذُو سَعَةٍ . وقال الضحاك : أغنياء ، دليله قوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ }{[52979]} [ البقرة : 236 ] .
قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب ، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض . فقوله : «وإنا لموسعون » بيان للإعراب ( في{[52980]} الفعل ) .
والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السماوات كقوله تعالى : { والسماء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { أَمِ السماء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة ، لم يسقط منها شيء ، ولم يُعْدَم منها جزءٌ . وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله : { سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً ، وعادت أرضاً من وقت حدوثها ، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة ، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا } [ النازعات : 28 ] .
وقال بعض الحكماء : السماء مسكَن الأَرْوَاحِ ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً . والله أعلم{[52981]} .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز ؟ ! .
فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها ، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا{[52982]} .
فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بَنَيْنَاها ، ولم يقل : بَنَيْتُها ؟ ولا بناها الله ؟ !
فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك ، لأن الشّركة ضعيفة ؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد ، وقوله : «بَنَيْنَاهَا » يدل على العَظَمَة ، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين{[52983]} قوله : «بَنَيْنَاهَا » وبين أن يكون شريك منافاة . وتقريره أن قوله تعالى : { بَنَيْنَاهَا } لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير ، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها ؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها ، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ . ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً ، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها ، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم ، فأفاد النص عظمة ، والعظمة أنفى للشريك ، فعلم أن قوله : «بَنَيْنَاهَا » أدلّ على نفي الشَّريك من «بَنَيْتُهَا » و«بِنَاء اللَّهِ »{[52984]} .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [ يس : 71 ] .
فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة ، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك .
فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة . وكذلك : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها .
وفيه لطيفة ( أخرى{[52985]} ) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته ، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة ، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.