اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47)

قوله : { والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وكذلك قوله : { والأرض فَرَشْنَاهَا } والتقدير : وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا . وقال أبو البقاء : أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا{[52976]} فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر . وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو : زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً .

وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما{[52977]} ؛ على الابتداء ، والخبر ما بعدهما . والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها .

قوله : «بأَيْدٍ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان :

أحدهما : أنها حال من فاعل «بَنَيْنَاهَا » أي ملتبسينَ بأيدٍ{[52978]} أي بقوة ؛ قال تعالى : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيدِ } [ ص : 17 ] .

الثاني : أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة . ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا . ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها ، كقولك : بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ .

قوله : «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «بَنَيْنَاهَا » . ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول «موسِعُون » محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا . ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ ؛ لأن معناه : لَقَادِرُونَ كقولك : ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي ؛ كقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خَلْقِنَا .

وقيل : ذُو سَعَةٍ . وقال الضحاك : أغنياء ، دليله قوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ }{[52979]} [ البقرة : 236 ] .

قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب ، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض . فقوله : «وإنا لموسعون » بيان للإعراب ( في{[52980]} الفعل ) .

فصل

والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السماوات كقوله تعالى : { والسماء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { أَمِ السماء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة ، لم يسقط منها شيء ، ولم يُعْدَم منها جزءٌ . وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله : { سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً ، وعادت أرضاً من وقت حدوثها ، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة ، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا } [ النازعات : 28 ] .

وقال بعض الحكماء : السماء مسكَن الأَرْوَاحِ ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً . والله أعلم{[52981]} .

فإن قيل : ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز ؟ ! .

فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها ، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا{[52982]} .

فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بَنَيْنَاها ، ولم يقل : بَنَيْتُها ؟ ولا بناها الله ؟ !

فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك ، لأن الشّركة ضعيفة ؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد ، وقوله : «بَنَيْنَاهَا » يدل على العَظَمَة ، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين{[52983]} قوله : «بَنَيْنَاهَا » وبين أن يكون شريك منافاة . وتقريره أن قوله تعالى : { بَنَيْنَاهَا } لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير ، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها ؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها ، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ . ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً ، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها ، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم ، فأفاد النص عظمة ، والعظمة أنفى للشريك ، فعلم أن قوله : «بَنَيْنَاهَا » أدلّ على نفي الشَّريك من «بَنَيْتُهَا » و«بِنَاء اللَّهِ »{[52984]} .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [ يس : 71 ] .

فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة ، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك .

فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة . وكذلك : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها .

وفيه لطيفة ( أخرى{[52985]} ) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته ، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة ، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة .


[52976]:السابق أيضا.
[52977]:وهي شاذة انظر البحر المحيط 8/142.
[52978]:والفاعل هو "نا" من لفظ بنيناها".
[52979]:وانظر: البغوي 6/246.
[52980]:ما بين القوسين سقط من ب. وانظر: تفسير الرازي 28/227.
[52981]:وانظر: تفسير الرازي 28/225 و226.
[52982]:السابق.
[52983]:في ب بين.
[52984]:السابق 28/226.
[52985]:زيادة من أ.