اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ} (41)

قوله تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } .

قرأ حماد بن{[54509]} أبي سليمان : «بِسِيمائِهِمْ » بالمد .

قوله تعالى : { فَيُؤْخَذُ بالنّواصي } الآية .

«يُؤخذ » متعدّ ، ومع ذلك تعدى بالباء ؛ لأنه ضمن معنى «يسحب » . قاله أبو حيان{[54510]} .

و«يسحب » إنما يتعدى ب «على » ، قال تعالى : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] فكان ينبغي أن يقول : ضمن معنى يتعدى «يدعون أو يدفعون » .

وقال مكّي : «إنما يقال : أخذت الناصية ، وأخذت بالناصية ، ولو قلت : أخذت الدَّابة بالناصية ، لم يجز .

وحكي عن العرب : أخذت الخِطَام ، وأخذت بالخِطَام . بمعنى .

وقد قيل : إن تقديره : فيؤخذ كل واحد بالنَّواصي ، وليس بصواب ؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما : بالباء ، لما ذكرنا ، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين : أحدهما بحرف جر غير الباء ، نحو : أخذت ثوباً من زيد ، فهذا المعنى غير الأول ، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلاَّ أن تجعلها بمعنى «من أجل » ، فيجوز أن تقول : «أخذت زيداً ثوباً بعمرو » أي : من أجله وبذنبه » . انتهى .

وفيما قاله نظر ، لأنك تقول : «أخذت الثوب بدرهم » فقد تعدّى بغير «من » أيضاً بغير المعنى الذي ذكره .

وقال ابن الخطيب{[54511]} : فإن قيل : كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى : { لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ الحديد : 15 ] وقال : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [ طه : 21 ] ؟ .

فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم ، وبالباء كقوله تعالى : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه ، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن ، فقال تعالى : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [ طه : 21 ] ، وقال تعالى { وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ } [ النساء : 102 ] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره ، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ .

و«أل » في «النَّواصي والأقْدَام » ليست عوضاً من ضمير عند البصريين ، فالتقدير : بالنواصي منهم ، وهي عند الكوفيين عوض .

والنَّاصية : مقدم الرأس ، وقد تقدم هذا مستوفى في «هود »{[54512]} وفي حديث عائشة رضي الله عنها : «مَا لَكُم لا تَنُصُّونَ مَيَّتَكُمْ » أي : لا تمدُّون ناصيته .

و«النَّصيّ » : مرعى طيب ، فقولهم : فلان ناصية القوم ، يحتمل أن يكون من هذا ، يعنون أنه طيب منتفع ، أو مثل قولهم : هو رأسُ القَوْمِ انتهى .

فصل في سيما المجرمين

قال الحسن : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } أي بسواد الأوجه ، وزرقة الأعين{[54513]} {[54514]} قال تعالى : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] .

وقال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] .

فقوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام } أي : يأخذ الملائكة بنواصيهم ، أي : بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار .

و«النَّواصي » : جمع ناصية .

وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقَّ ظهره ، ثم يلقى في النّار .

وقيل : يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه ، وأكثر لتشويهه .

وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النَّار ، تارةً تأخذ بناصيته ، وتجرّه على وجهه ، وتارةً تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه .

فإن قيل : ما وجه إفراد «يُؤخَذ » مع أن المجرمين جمع ، وهم المأخوذون ؟ .

فالجواب من وجهين{[54515]} : الأول : أن قوله : «يُؤخَذُ » متعلق «بالنواصي » ، كقولك : ذهب يزيد .

والثاني : أن يتعلق بما يدلّ عليه «يؤخذ » ، فكأنه قال : يؤخذ المأخوذون بالنواصي .


[54509]:ينظر: البحر المحيط 8/194، والدر المصون 6/245.
[54510]:ينظر: البحر المحيط 8/194.
[54511]:ينظر الدر المصون 6/245.
[54512]:آية 56.
[54513]:ينظر الرازي 29/105.
[54514]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/60) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/200) عن الضحاك وعزاه إلى هناد وعبد بن حميد.
[54515]:ينظر: تفسير الرازي 29/105.