{ وَيَرْزُقْهُ } الثواب { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أن يبارك له فيما آتاه .
وقال سهل بن عبد الله : { وَمَن يَتَّقِ الله } في إتباع السُّنَّة { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من عقوبة أهل البدع { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوَّتهِ بالرجوع إلى اللَّه { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } مما كلفه الله بالمعونة{[57022]} .
وقال{[57023]} ابن مسعود ومسروق : الآية على العموم .
وقال أبو ذر : «قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ " وتلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ فما زال يكررها ويعيدها »{[57024]} .
وقال ابن عباس : «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } ] {[57025]} قال : " مخرجاً من شُبهات الدنيا ، ومن غمرات الموتِ ، ومن شدائد يوم القيامة " {[57026]} .
وقال أكثر المفسرين{[57027]} : «نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم ، فما تأمرني ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - : " اتِّق اللَّهَ واصْبِرْ ، وآمُرُكَ وإيَّاهَا أن تَسْتَكْثِرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ، فعاد إلى بيته ، وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " فقالت : نِعْمَ ما أمرنا به ، فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم ، وجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاةٍ ، فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له »{[57028]} .
وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو ، وكان فقيراً . فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً .
وفي رواية : فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه .
وقال مقاتل : «أصاب غنماً ومتاعاً ، فقال أبوه للنبيّ صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني ؟ قال : نعم » ، ونزلت : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }{[57029]} .
وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن انقَطَعَ إلى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَؤونةٍ ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكلها اللَّهُ إليهِ »{[57030]} .
وقال الزجاج{[57031]} : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب .
وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كُلِّ هَمٍّ فَرجاً ، ومِن كُلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً ، ورَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ »{[57032]} .
قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } .
أن من فوّض إليه أمره كفاهُ ما أهمَّه .
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ، ولم يرد الدنيا ؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «لَوْ أنَّكُمْ تَتوكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكُم كَمَا يَرزقُ الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصاً وتَرُوحُ بِطَاناً »{[57033]} .
قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } .
قرأ حفص : «بَالِغُ » من غير تنوين «أمْرِهِ » مضاف إليه على التخفيف .
والباقون : بالتنوين{[57034]} والنصب ، وهو الأصل ، خلافاً لأبي حيان{[57035]} .
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي{[57036]} هند ، وأبو عمرو في رواية : «بَالِغٌ أمْرُهُ » بتنوين «بالغ » ورفع «أمره » .
وفيه وجهان{[57037]} :
أحدهما : أن يكون «بالغ » خبراً مقدماً ، و «أمره » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «إن » .
والثاني : أن يكون «بالغ » خبر «إن » و «أمره » فاعل به .
قال الفراء{[57038]} : أي : أمره بالغ .
وقيل : «أمره » مرتفع ب «بالغ » والمفعول محذوف ، والتقدير : بالغ أمره ما أراد .
وقرأ المفضل{[57039]} : «بالغاً » بالنصب ، «أمرُه » بالرفع . وفيه وجهان{[57040]} :
أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري{[57041]} : أن يكون «بالغاً » نصباً على الحال ، و { قَدْ جَعَلَ الله } هو خبر «إن » تقديره : إن الله قد جعل لكل شيء قدراً بالغاً أمره .
والثاني : أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها ، كقوله : [ الطويل ]
4782 - . . . *** . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسنَا أسْدَا{[57042]}
ويكون «قَدْ جَعَلَ » مستأنفاً كما في القراءة الشهيرة .
ومن رفع «أمره » فمفعول «بالغ » محذوف ، تقديره : ما شاء ، كما تقدم في القرطبي{[57043]} .
فصل في معنى الآية{[57044]}
قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً .
قوله : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
قيل : إن من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { مَخْرَجاً } آية ، ومنه إلى قوله تعالى : { قَدْراً } آية أخرى ، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة{[57045]} .
وقرأ جناح بن{[57046]} حبيش : «قَدراً » بفتح الدال .
والمعنى{[57047]} : لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه .
وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة{[57048]} .
وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : «فَنَحْنُ إذَا توكلنَا عليْهِ يُرسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلاَ نَحْفَظُهُ » ، فنزلت : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } فيكم وعليكم{[57049]} .
وقال الربيع بن خيثم : إنَّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجَّاه ، ومن دعاه أجاب له .
وتصديق ذلك في كتاب الله : { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ }[ التغابن : 11 ] ، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } ، { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } [ التغابن : 17 ] ، { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[ آل عمران : 101 ] ، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .