اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ} (8)

قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } .

قال الزمخشري : «الفاء » في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } للتسبيب ، كأنه قال : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه . والفاء في «فإذا » متعلقة ب «أنذر » ، أي : فأنذرهم إذا نقر في الناقور . قاله الحوفيُّ .

وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك ، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً ، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى .

الثاني : أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } .

قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب «إذا » ، وكيف صح أن يقع «يومئذ » ظرفاً ل «يوم عسير » ؟ .

قلت : انتصب " إذا " بما دل عليه الجزاء ؛ لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع " يومئذ " ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع ، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور ، انتهى .

ولا يجوز أن يعمل فيه نفس " عسير " ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين ، ولذلك رد على الزمخشري قوله : أن " في أنفسهم " متعلق ب " بَلِيغاً " في سورة " النساء " في قوله تعالى { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره .

الثالث : أن ينتصب بما دل عليه " فذلك " ؛ لأنه إشارة إلى النقر ، قاله أبو البقاء ، ثم قال : " و «يومئذ » بدل من «إذا » ، و «ذلك » مبتدأ ، والخبر { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، أي : نقر يوم " .

الرابع : أن يكون " إذا " مبتدأ ، و " فذلك " خبره ، والفاء مزيدة فيه ، وهو رأي الأخفش .

وأما " يَومَئذٍ " ففيه أوجه :

أحدها : أن يكون بدلاً من " إذا " ، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث .

الثاني : أن يكون ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } كما تقدم في الوجه الثاني .

الثالث : أن يكون ظرفاً ل " ذلك " ، لأنه أشار به إلى النقر .

الرابع : أنه بدل من " فذلك " ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن .

الخامس : أن يكون " فذلك " مبتدأ ، و { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبره ، والجملة خبر " فَذلِكَ " .

قوله : " نُقِرَ " ، أي : صوت ، يقال : نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك ، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك ، ونقرتُ الرجل : إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه ، وتلك الدعوة يقال لها : النقرى ، وهي ضد الدعوة الجفلى ؛ قال الشاعر : [ الرمل ]

4955 - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى***لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ{[58484]}

وقال امرؤ القيس : [ الرجز ]

4956 - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ{[58485]} *** . . .

يريد : النقر ، أي الصوت ، والنقر في كلام العرب : الصوت ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

4957 - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ***ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ{[58486]}

والناقور : «فاعول » منه كالجاسوس من التجسس ، وهو الشيء المصوّت فيه .

قال مجاهد وغيره : وهو كهيئة البوق ، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك{[58487]} .

والنقير : فرع الشيء الصلب ، والمنقار : الحديدة التي ينقر بها ، ونقرت عينه : بحثت على أخباره استعارة من ذلك ، ونقرته : أعبته .

ومنه قول امرأة لزوجها : مر بي على بني نظر ، ولا تمر بي على بنات نقر ، أرادت : ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها ، وبينات نقر : النساء ، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها .

قوله : { عَلَى الكافرين } . فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «عسير » .

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل «عَسِيرٌ » .

الثالث : أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «عَسِيرٌ » .

الرابع : أن يتعلق ب «يسير » ، أي : غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء .

إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وهو ممنوع ، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف «غير » بمعنى النفي ، كقوله : [ البسيط ]

4958 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ***عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ{[58488]}

وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة .

الخامس : أن يتعلق بما دل عليه «غَيرُ يَسيرٍ » ، أي : لا يسهل على الكافرين .

قال الزمخشريُّ : فإن قلت : فما فائدة قوله : «غير يسير » ، و «عسير » مغن عنه ؟ .

قلت : لما قال - سبحانه وتعالى - : «على الكافرين » فقصر العسر عليهم ، قال : «غَيرُ يَسِيرٍ » ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، ليجمع بين وعيد الكافرين ، وزيادة غيظهم ، وتيسيراً للمؤمنين ، وتسليتهم ، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا .

فصل في تعلق الآية بما بعدها

لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل : المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية .

وقيل : الأولى ، قال الحليمي في كتاب «المنهاج » : إنه تعالى سمى الصور اسمين ، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً ، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء ، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها ، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية ، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه ، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى .

قال ابن الخطيب{[58489]} : وهذا مردود ، لأن الناقور اسم لما ينقر به لا لما ينقر فيه ، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين : ينقر في إحداهما ، وينفخ في الأخرى ، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر ، والنفخ ، لتكون الصيحة أشد ، وأعظم ، وإذا نفخ فيه للإحياء ، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير ، وهو نظير صوت الرعد ؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه ، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت .

قال ابن الخطيب : وفيه إشكال ، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين ؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة ، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء ، ولذلك يقول : { يا ليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، أي : يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى .


[58484]:البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 55، والنوادر في اللغة لأبي زيد 309، والاقتضاب ص257، واللسان (جعل)، و(نقر). والدر المصون (6/414).
[58485]:نسب الرجز إلى عبيد الله بن ماوية، ولفدكي بن عبد الله، ولبعض السعديين ينظر الكتاب 4/173، والدرر 6/300، والمقاصد النحوية 4/559، وأسرار العربية ص414، والإنصاف 2/732، وأوضح المسالك 4/346، وشرح التصريح 2/341، واللسان (حلق)، ومغني اللبيب 2/434، وهمع الهوامع (2/107، 108).
[58486]:ينظر الديوان ص 75، واللسان (طرف)، و(غضض)، والقرطبي 19/46، والدر المصون (6/414).
[58487]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/304) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/452) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[58488]:تقدم.
[58489]:ينظر الفخر الرازي 30/173.