اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

قوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً } الآية .

لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ ، وأمرهم بالنَّفير ، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } اسم " كان " ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق ، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه .

والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا ، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : سَهْلاً قريباً ههنا . { لاَّتَّبَعُوكَ } لخرجوا معك . ومثل بالقاصد ، لأنَّ المتوسط ، بين الإفراد والتفريط ، يقال له : مُقتصدٌ . قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] ومعنى القاصد : ذو قصد ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، ورابحٌ { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } . قرأ عيسى{[17832]} بن عمر ، والأعرج " بَعِدَت " بكسر العين . وقرأ عيسى{[17833]} " الشِّقَّة " بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم .

والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها ، اشتقاقاً من المشقَّة .

وقال الليثُ ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير ، اشتقاقاً من الشِّق ، أو من المشقَّة ، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك .

قوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله } الجارُّ متعلقٌ ب " سَيَحْلِفُونَ " .

وقال الزمخشريُّ " بِاللهِ " متعلقٌ ب " سَيحْلفُونَ " ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي : سَيحْلِفُون ، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا .

وقوله : " لَخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسم ، و " لَوْ " جميعاً .

قال أبو حيان{[17834]} : قوله : " لخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، و " لو " جميعاً " ؛ ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان :

أحدهما : أنَّ " لَخَرجْنَا " جوابُ القسم وجوابُ " لَوْ " محذوفٌ ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط ، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط ، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ . والآخر : أنَّ " لخَرجْنَا " جوابُ " لَوْ " و " لَوْ " وجوابها جواب القسم ، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ . أمَّا أنَّ " لخَرَجْنَا " سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك ، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب " لو " ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، وجواب " لو " .

وقرأ الأعمشُ{[17835]} ، وزيدُ بنُ عليٍّ " لوُ استطَعْنَا " بضم الواو ، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل ، وشبَّها واو " لَوْ " بواو الضَّمير ، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو " لَوْ " حيث كسرُوها ، نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسنُ{[17836]} : { اشتروا الضلالة } ، و{ لَوِ استطعنا } بفتح الواو تخفيفاً .

ولو قلت : " وأنا قائمٌ " حالاً من ضمير " ليفعلنَّ " لم يجز ، وكذا عكسه ، نحو : حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم ، تريد : قائماً ، لم يجز .

وأمَّا قوله : " وجاء به على لفظ الغائب ؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم " فمغالطةٌ ، ليس مخبراً عنهم بقوله : " لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا " ، بل هو حاكٍ لفظ قولهم . ثمَّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً . . . إلى آخره . كلامٌ صحيحٌ ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةٌ ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله ، لاشتراكهما في العامل ، لو قلت : قال زيدٌ : خرجت يضربُ خالداً ، تريد : اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هندٌ : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد : خرج زيد ضاربا خالداً ، لم يَجُزْ ، انتهى .

الرابعُ : أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ ، أخبر اللهُ عنهم بذلك .

فصل

معنى الآية : أنَّه لو كانت المنافع قريبة ، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع ، ولكن طال السفرُ ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم ، فلهذا تخلَّفُوا ، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق ، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام " اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ " {[17837]} ثم قال : { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج ، فكانوا كاذبين في أيمانهم .

فصل

قالوا : الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً .


[17832]:ينظر: البحر المحيط 5/47، الدر المصون 3/466.
[17833]:ينظر: السابق.
[17834]:ينظر: البحر المحيط 5/47.
[17835]:ينظر: الكشاف 2/273، المحرر الوجيز 3/38، البحر المحيط 5/47، الدر المصون 3/467.
[17836]:ينظر: البحر المحيط 5/47، الدر المصون 3/467.
[17837]:أخرجه البيهقي (10/35).