مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفلق

قبل الخوض في التفسير لابد من تقديم فصلين :

الفصل الأول : سمعت بعض العارفين فسر هاتين السورتين على وجه عجيب ، فقال إنه سبحانه لما شرح أمر الإلهية في سورة الإخلاص ذكر هذه السورة عقيبها في شرح مراتب مخلوقات الله فقال أولا : { قل أعوذ برب الفلق } وذلك لأن ظلمات العدم غير متناهية ، والحق سبحانه هو الذي فلق تلك الظلمات بنور التكوين والإيجاد والإبداع ، فلهذا قال : { قل أعوذ برب الفلق } ثم قال : { من شر ما خلق } والوجه فيه أن عالم الممكنات على قسمين عالم الأمر وعالم الخلق على ما قال : { ألا له الخلق والأمر } وعالم الأمر كله خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات ، أما عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات ، فالشر لا يحصل إلا فيه ، وإنما سمي عالم الأجسام والجسمانيات بعالم الخلق ؛ لأن الخلق هو التقدير ، والمقدار من لواحق الجسم ، فلما كان الأمر كذلك ، لا جرم قال : أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور الإيجاد والإبداع من الشرور الواقعة في عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات ، ثم من الظاهر أن الأجسام ، إما أثرية أو عنصرية والأجسام الأثرية خيرات ، لأنها بريئة عن الاختلال والفطور ، على ما قال : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور } وأما العنصريات فهي إما جماد أو نبات أو حيوان ، أما الجمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية ، فالظلمة فيها خالصة والأنوار عنها بالكلية زائلة ، وهي المراد من قوله : { ومن شر غاسق إذا وقب } وأما النبات فالقوة العادية النباتية هي التي تزيد في الطول والعرض والعمق معا ، فهذه النباتية كأنها تنفث في العقد الثلاثة ، وأما الحيوان فالقوى الحيوانية هي الحواس الظاهرة والحواس الباطنية والشهوة والغضب وكلها تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب ، والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد من قوله : { ومن شر حاسد إذا حسد } ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية ، وهي المستعيذة ، فلا تكون مستعاذا منها ، فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في سورة الناس مراتب درجات النفس الإنسانية في الترقي ، وذلك لأنها بأصل فطرتها مستعدة لأن تنتقش بمعرفة الله تعالى ومحبته إلا أنها تكون أول الأمر خالية عن هذه المعارف بالكلية ، ثم إنه من المرتبة الثانية يحصل فيها علوم أولية بديهية يمكن التوصل بها إلى استعلام المجهولات الفكرية ، ثم في آخر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل ، فقوله تعالى : { قل أعوذ برب الناس } إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الإنسانية وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية ، وذلك لأن النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يربيها ويزينها بتلك المعارف البديهية ، ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله : { ملك الناس } ثم في المرتبة الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القول إلى الفعل يحصل الكمال التام للنفس وهو المراد من قوله : { إله الناس } فكأن الحق يسمي نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الإنسانية بما يليق بتلك المرتبة ، ثم قال : { من شر الوسواس الخناس } والمراد منه القوة الوهمية ، والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم ، قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات ، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس ، ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة ، فلهذا السبب يسمى الوهم : ( بالخناس ) ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل ، وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم ، وهناك آخر درجات مراتب النفس الإنسانية ، فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه .

الفصل الثاني : ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها : ( أحدها ) روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك ، فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب السورتين . ( وثانيها ) : أن الله تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين ، وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا : تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك ، وأقوى ظهرك وأنظر وجهك ، فأنزل الله تعالى المعوذتين . ( وثالثها ) : وهو قول جمهور المفسرين ، أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة وفي وتر دسه في بئر يقال لها ذروان فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك ، وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام وطلحة وجاءوا به ، وقال جبريل للنبي حل عقدة ، وقرأ آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يجد بعض الخفة والراحة .

واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم ، قال القاضي هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها ، والله تعالى يقول : { والله يعصمك من الناس } وقال : { ولا يفلح الساحر حيث أتى } ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ، لأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ، وكل ذلك باطل ، ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور ، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب ، ومعلوم أن ذلك غير جائز . قال الأصحاب : هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل ، والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة أما قوله : الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور ، فلو وقع ذلك لكان الكفار صادقين في ذلك القول . ( فجوابه ) : أن الكفار كانوا يريدون بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بواسطة السحر ، فلذلك ترك دينهم ، فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد ، وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه ونبوته ، فأما في الإضرار ببدنه فلا يبعد ، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة ولنرجح إلى التفسير .

{ بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق } فيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { قل } فوائد ( أحدها ) : أنه سبحانه لما أمر بقراءة سورة الإخلاص تنزيها له عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، وكان ذلك من أعظم الطاعات ، فكأن العبد قال : إلهنا هذه الطاعة عظيمة جدا لا أثق بنفسي في الوفاء بها ، فأجاب بأن قال : { قل أعوذ برب الفلق } أي استعذ بالله ، والتجئ إليه حتى يوفقك لهذه الطاعة على أكمل الوجوه ( وثانيها ) : أن الكفار لما سألوا الرسول عن نسب الله وصفته ، فكأن الرسول عليه السلام قال : كيف أنجو من هؤلاء الجهال الذين تجاسروا وقالوا : فيك مالا يليق بك ، فقال الله : { قل أعوذ برب الفلق } أي استعذ بي حتى أصونك عن شرهم ( وثالثها ) كأنه تعالى يقول : من التجأ إلى بيتي شرفته وجعلته آمنا فقلت : { ومن دخله كان آمنا } فالتجئ أنت أيضا إلي حتى أجعلك آمنا : { فقل أعوذ برب الفلق } .

المسألة الثانية : اختلفوا في أنه هل يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ أم لا ؟ منهم قال : إنه يجوز واحتجوا بوجوه ( أحدها ) : ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام ، فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، والله يشفيك ( وثانيها ) قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء : «بسم الله الكريم ، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ، ومن شر حر النار » ( وثالثها ) قال عليه السلام : من دخل على مريض لم يحضره أجله ؛ فقال : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفي ( ورابعها ) : عن علي عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال : «أذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت » ( وخامسها ) عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول : «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة » ويقول : هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق ( وسادسها ) : قال عثمان بن أبي العاص الثقفي : قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجعل يدك اليمنى عليه ، وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد سبع مرات » ففعلت ذلك فشفاني الله ( وسابعها ) : روي أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلا يقول : «يا أرض ، ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك ، وشر ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب ، ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد » ( وثامنها ) قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ : { قل هو الله أحد } والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي ومن الناس من منع من الرقى لما روي عن جابر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى ، وقال عليه السلام : " إن لله عبادا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " وقال عليه السلام : " لم يتوكل على الله من اكتوى واسترقى " وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الرقى المجهولة التي لا تعرف حقائقها ، فأما ما كان له أصل موثوق ، فلا نهي عنه ، واختلفوا في التعليق ، فروي أنه عليه السلام قال : " من علق شيئا وكل إليه " وعن ابن مسعود : أنه رأى على أم ولده تميمة مربوطة بعضدها ، فجذبها جذبا عنيفا فقطعها ، ومنهم من جوزه ، سئل الباقر عليه السلام عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه ، واختلفوا في النفث أيضا ، فروي عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه ، وعنه عليه السلام : «أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات ، ثم مسح بهما جسده » ومنهم من أنكر النفث ، قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد . وعن إبراهيم قال : كانوا يكرهون النفث في الرقى ، وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجيع ، فقلت : ألا أعوذك يا أبا محمد ؟ قال : بلى ولكن لا تنفث ، فعوذته بالمعوذتين . قال الحليمي : الذي روي عن عكرمة أنه ينبغي للراقي أن لا ينفث ولا يمسح ولا يعقد ، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ منه ، فوجب أن يكون منهيا عنه إلا أن هذا ضعيف ، لأن النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان . فأما إذا كان هذا النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون حراما .

المسألة الثالثة : أنه تعالى قال في مفتاح القراءة : { فاستعذ بالله } وقال ههنا : { أعوذ برب الفلق } وفي موضع آخر : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } وجاء في الأحاديث : ( أعوذ بكلمات الله التامات ) ولا شك أن أفضل أسماء الله هو الله ، وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره ، قال تعالى : { أأرباب متفرقون } فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل : أعوذ بالله بل قال : { برب الفلق } ؟ وأجابوا عنه من وجوه : ( أحدها ) أنه في قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن ، وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر ، والمهم الأول أعظم ، فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم ( وثانيها ) : أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك ، فلا جرم ذكر الاسم الأعظم هناك دون ههنا ( وثالثها ) : أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي ، أو كان العبد يقول : التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني ، ولا تخيب رجائي ( ورابعها ) : أن بالتربية صار شارعا في الإحسان ، والشروع ملزم ( وخامسها ) : أن هذه السورة آخر سور القرآن فذكر لفظ الرب تنبيها على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه ، فإن قيل : إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال : { ملك الناس إله الناس } قلنا : فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال : قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية ( وسادسها ) : كان الحق قال لمحمد عليه السلام : قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري ، ولسانك لي فلا تذكر به أحدا غيري ، وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري ، وإن أردت شيئا فلا تطلبه إلا مني ، فإن أردت العلم فقل : ( رب زدني علما ) وإن أردت الدنيا ( فاسألوا الله من فضله ) ، وإن خفت ضررا فقل : ( أعوذ برب الفلق ) فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق الإصباح . وبأني فالق الحب والنوى ، وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك ، فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك ، أفلا أصونك عن الآفات والمخافات .

المسألة الرابعة : ذكروا في ( الفلق ) وجوها ( أحدها ) : أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج : لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه ( الأول ) : أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه ( الثاني ) : أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقيا لطلوع صباح النجاح ( الثالث ) : أن الصبح كالبشرى فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم ، فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج ، فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر ، فالحق سبحانه يقول : { قل أعوذ برب } يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال ، فكيف بعد السؤال ( الرابع ) قال بعضهم : إن يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا ربه فقال : يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر ، فلما طاب وقت يوسف قال جبريل : وأنا أدعو أيضا وتؤمن أنت ، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل ، وروي أن دعاءه في الجب : يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ( الخامس ) : لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم ( السادس ) : يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ، ثم منهم من يخرج من داره مفلسا عريانا لا يلتفت إليه ، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس ، ومنهم من كان ملكا مطاعا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه ، كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ، ومن عبد كان مطيعا لربه في الدنيا فصار ملكا مطاعا في العقبى يقدم إليه البراق ( السابع ) : يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله : { ناكسوا رؤوسهم } والسجود في الصلاة يذكر قوله : { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } والقعود يذكر قوله : { وترى كل أمة جاثية } فكان العبد يقول : إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال ، وإنما خص وقت صلاة الصبح لأن لها مزيد شرف على ما قال : { إن قرآن الفجر كان مشهودا } أي تحضرها ملائكة الليل والنهار ( الثامن ) : أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال : { والمستغفرين بالأسحار } ( القول الثاني ) : في الفلق أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات : { إن الله فالق الحب والنوى } والجبال عن العيون : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ والقلوب عن المعارف ، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب ، بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود ، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع ، فهذا هو المراد من الفلق ، وهذا التأويل أقرب من وجوه ( أحدها ) : هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق ، فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون كل المحدثات والمبدعات فيكون التعظيم فيه أعظم ، ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى ( وثانيها ) : أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته يكون موجودا بغيره ، معدوما في حد ذاته ، فإذن كل ممكن فلابد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه ، فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر والتربية ، إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء ، فكأنه يقول : إنك لست محتاجا إلى حال الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معا في الذات وفي جميع الصفات ، فقوله : { برب الفلق } يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني ، ( وثالثها ) : أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور ، فكأنه يقول : أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم } .

القول الثالث : أنه واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان ، وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال لا أبالي ، أليس من ورائهم الفلق ، فقيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، وإنما خصه بالذكر ههنا لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب العظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ، ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه ، فكأنه يقول : يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك .