مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (48)

قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ، ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ، هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب } .

اعلم أن الله تعالى لما قال : { عزيز ذو انتقام } بين وقت انتقامه فقال : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } وعظم من حال ذلك اليوم ، لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين ، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله : { يوم يأتيهم العذاب } .

المسألة الثانية : اعلم أن التبديل يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى . والثاني : أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى ، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز ، أنه يقال بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ويقال : بدلت قميصي جبة ، أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى ، ويقال : تبدل زيد إذا تغيرت أحواله ، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ، ومنه قوله : { بدلناهم جلودا غيرها } وقوله : { بدلناهم بجنتيهم جنتين } إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان :

القول الأول : أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها ، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت . وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا » وقوله : { والسموات } أي تبدل السموات غير السموات ، وهو كقوله عليه السلام : « لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده » والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر ، وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها ، وتكوير شمسها ، وخسوف قمرها ، وكونها أبوابا ، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان .

والقول الثاني : أن المراد تبديل الذات . قال ابن مسعود : تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة ، فهذا شرح هذين القولين ، ومن الناس من رجح القول الأول . قال لأن قوله : { يوم تبدل الأرض } المراد هذه الأرض ، والتبدل صفة مضافة إليها ، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجودا ، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل ، وإلا لامتنع حصول التبدل ، فوجب أن يكون الباقي هو الذات . فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية ، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون : إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها .

واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة ، والدليل عليه قوله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } وقوله : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } والله أعلم .

أما قوله تعالى : { وبرزوا لله الواحد القهار } فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى : { وبرزوا لله جميعا } وإنما ذكر الواحد القهار ههنا ، لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب ، قهار لا يقهر ، فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة ، ونظيره قوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } .