اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (48)

قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ لما بين أنه عزيز ذو انتقام ، بين وقت انتقامه ، فقال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } ] {[19385]} ويجوز في " يَوْمَ " عدة أوجه :

أحدها : أن ينتصب منصوباً ب " انتقام " أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم .

الثاني : أن ينتصب ب " اذكُر " .

الثالث : ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام .

الرابع : أن يكون بدلاً من : " يَوْمَ يَأتِيهِمْ " .

الخامس : أن ينتصب ب " مُخْلِفَ " .

السادس : أن ينتصب ب " وَعْدِهِ " ، و " إنَّ " وما بعدها اعتراض .

ومنع أبو البقاء هذه الآخرين ، قال{[19386]} : " لأن ما قبل " إنَّ " لا يعمل فيما بعدها " .

وهذا غير مانع ؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض ، فلا يبالى به فاصلاً .

فصل

التَّبديلُ يحتمل وجهين :

الأول : أن تكون الذَّات باقية ، وتبدل الصفة بصفة أخرى ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، منه قوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويقال : بدّلتُ قَمِيصِي جُبَّة ، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ ، وقال الشاعر : [ الطويل ]

فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ *** ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ{[19387]}

الثاني : أنْ تُفني الذات ، وتحدث ذاتاً أخرى ، كقولك : بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله -تعالى- : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] .

وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان :

الأول : قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : هي تلك الأرض ، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها ، وتفجر أنهارها ، وتسوى ، فلا { ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً }{[19388]} [ طه : 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ ، فيَبْسُطهَا ، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [ العكاظي ]{[19389]} لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " . وتبدل السماوات بانتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها ؛ وخسوف قمرها ، وكونها تكن تارة كالمهل ، وتارة كالدهان{[19390]} .

والقول الثاني : تبديل الذات . قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية ، لم يسفك فيها دمٌ ، ولم يعمل عليها خطيئة{[19391]} .

والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ : لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنَّما يعدم صفاتها .

وقيل : المراد من تبديل الأرض والسماوات : هو أنَّ الله -تعالى- ، يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السماوات الجنة بدليل قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ }

[ المطففين : 7 ] وقوله -عزَّ وجلَّ- { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] .

وقالت عائشة -رضي الله عنها- : سألتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " على الصِّراطِ " {[19392]} .

وروى ثوبانُ -رضي الله عنه- أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ ؟ قال : " هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ " {[19393]} .

قوله " والسماوات " تقديره : وتبدل السماوات غير السماوات .

وقرئ{[19394]} : " نُبَدّلُ " بالنون : " الأرض " نصباً " والسماوات " نسق عليه .

قوله " وبَرَزُوا " فيه وجهان :

أحدهما : أنها حملةٌ مستأنفة ، أي : يبرزون ، كذا قدَّره أبو البقاءِ ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال ، والأحسن أنه مثل { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] لتحقُّّق ذلك .

والثاني : أنها حال من " الأرض " ، و " قَدْ " معها مرادة ، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في : " بَرَزُوا " للخلق دلّ عليه السِّياق ، والرَّابط بين الحال ، وصاحبها الواو .

وقرأ زيد{[19395]} بن علي " وبُرِّزُوا " بضم الباء ، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله ، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ، وإنما ذكر " الوَاحدِ القهَّارِ " هنا ؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ ، قهَّار لا يقهر ، فلا يستغاث بأحد غيره ، فكان الأمر في غية الصعوبة .


[19385]:سقط من ب.
[19386]:ينظر: الإملاء 2/71.
[19387]:ينظر: مجالس ثعلب 1/49، روح المعاني 13/254، الكشاف 2/384، شواهد الكشاف 4/258، البحر المحيط 5/427، العقد الفريد 2/148، الدر المصون 4/281..
[19388]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/116).
[19389]:في ب: العاكظي.
[19390]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/482).
[19391]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/479) والحاكم (4/570) والطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" (7/48). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في "المجمع" (7/48) وقال: وإسناده جيد. وذكره أيضا السيوطي في "الدر المنثور" (4/167) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "البعث".
[19392]:أخرجه مسلم (4/2150) كتاب صفات المنافقين: باب في البعث والنشور حديث (29/2791). والترمذي (5/276) كتاب التفسير حديث (3121) وابن ماجه (4279) واستدركه الحاكم (2/352) من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة وهو في مسلم بهذا الإسناد. والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/167) وزاد نسبته إلى أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه.
[19393]:أخرجه مسلم (1/252) كتاب الحيض: باب بيان صفة مني الرجل والمرأة حديث (340/315) والطبري (7/483) والحاكم (3/482) من حديث ثوبان
[19394]:/567 والبحر المحيط 5/428 والدر المصون 4/282. ينظر: الكشاف
[19395]:ينظر: البحر المحيط 5/428 والدر المصون 4/282.