الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ} (26)

قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } : " مِنْ " لابتداء الغاية أو للتبعيضِ . والصَّلْصال : قال أبو عبيدة : " وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل ، ثم يَجِفُّ ، فيُسمع له صَلْصَلَةٌ ، أي : تَصْوِيْت " . وقال الزمخشري : " الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ من غيرِ طبخٍ ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار " . وقال أبو الهيثم : " هو صوت اللِّجامِ وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ " . وقال الزمخشري أيضاً : " قالوا : إذا تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل ، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو صَلْصَلَة . وقيل : هو مِنْ تضعيفِ " صَلِّ : إذا أَنْتَنَ " . انتهى . وصَلْصال هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو : الزِّلزال . ويجوز كسرُه أيضاً .

وفي وزن هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف ، فقيل : وزنه فَعْفَع ، كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لامَ للكلمة ، قاله الفراء وغيرُه . وهو غَلَطٌ لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ : فاء وعين ولام . الثاني : أنّ وزنَه فَعْفَل وهو قولُ الفرّاء . الثالث : أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل ، فلما اجتمع ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي . وخصَّ بعضُهم هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو : لَمْلَمَ وكَبْكَبَ فإنك تقول فيهما : لَمَّ وكَبَّ ، فلو لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه نحو : سِمْسِم ، قال : فلا خلاف في أصالةِ الجميع .

قوله : { مِّنْ حَمَإٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال ، فيتعلَّقُ بمحذوف . والثاني : أنه بدلٌ من " صَلْصال " بإعادة الجارِّ .

والحَمَأُ : الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ . قال الليث : " واحدُه حَمَأة بتحريك العين " ، جعله اسمَ جنسٍ ، وقد غَلِط في ذلك ؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا : لا يُقال إلا " حَمْأة " بالإِسكان ، ولا يُعْرَفُ التحريكُ ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة ، وأنشدوا لأبي الأسود :

يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً *** يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ

فلا تكون " الحَمْأَةُ " واحدةَ " الحَمَأ " لاختلاف الوزنين .

والمَسْنُون : المَصْبوبُ مِنْ قولهم : سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات ، فكأنَّ المعنى : أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة . قال الزمخشري : " وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال ، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ " . قلت : يعني أنه يصيرُ التقدير : مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر ، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا { مِّنْ حَمَإٍ } صفةً لصَلْصال ، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا . وقيل : مَسْنُون مُصَوَّر ، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه . قال الشاعر :

تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الزمخشري : " مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر : إذا حَكَكْتُه به ، فالذي يَسِيل بينهما " سَنينٌ " ولا يكون إلا مُنْتِناً " . وقيل : المَسْنُون : المنسوبُ إليه ، والمعنى : يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً ، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع . وقيل : هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر ، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين .