اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ} (26)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ } الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد ؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل ، هو أولُ الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخلوقٍ من الأبوين ؛ فيكون مخلوقاً -لا محالة- بقدرة الله –تعالى- .

فقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ -صلوات الله وسلامه عليه- .

ونقل في كتب الشِّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنَّه قال : قد انقضى قبل آدم -صلوات الله عليه- الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر .

قال ابنُ الخطيب{[19512]} -رحمه الله- : " وهذا لا يقدحُ في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع " .

واعلم أنه –تعالى- قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة .

واعلم أنه –تعالى- قادر على خقله من أي جنس أراد ، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة ؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه .

وسمِّي إنساناً : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمَّا من النسيان ؛ لأنه عهد إليه فنسِي .

عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال : بعث الله –تعالى- جِبْريلَ -عليه السلام- إلى الأرض ؛ ليأتيه بطينٍ منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي ؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربِّ : أنها عاذتْ بك ، فأعذتها ، فبعث ميكائيل -صلوات الله عليه- فعاذت منه ، فأعاذها ؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموتِ ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، ولم يأخذ من مكان واحدٍ ، وأخذ من تربةٍ حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين{[19513]} .

وسُمِّي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : " أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك " ؟ فقال : رأيتُ أمرك أوجب من قولها ، فقال -جل ذكره- : " أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً ، وهو يلتصق بعضه ببعضٍ ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنوناً ، وهو المنتنُ .

ثم قال للملائكة : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } ، فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه ، لقوله الله تعالى : أتتكبَّر على ما علمت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه ؟ .

فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً ، فلما رأتهُ الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به ، فيضربه ؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار ، وتكون له صلصلةٌ ؛ فذلك قوله : { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خلقت ! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه ؛ فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه ، لأهلكنَّه ، فلمَّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة -عليه السلام- : قُل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربُّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروحُ جوفه ، اشتهى الطعام ؛ فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة ، فذلك قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] .

قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } ، " مِنْ " : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض ، والصلصالُ : قال أبو عبيده{[19514]} : هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفُّ ؛ فسمع له صلصلةٌ ، أي : تصويت ، قال : والصلصلةُ : الصَّوتُ ؛ وأنشدوا : [ الكامل ]

شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ *** وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ{[19515]}

أراد : صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا ، حين تطيرُ ، أو أصواتَ أفراخها .

وقال الزمخشريُّ{[19516]} : " الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ ، فإذا طبخ ، فهو فخار " .

وقال أبو الهيثم : " هو صوتُ اللِّجامِ ، وما أشبهه ؛ كالقعقعة في الثوب " .

وقال الزمخشري –أيضاً- : قالوا : إذا توهَّمت في صوته مدًّا ، فهو صليلٌ ، وإن توهمت فيه خفاءً ، فهو صلصلةٌ ، وقيل : هو من تضعيف " صَلَّ " ، إذا أنتن أنتهى .

و " صَلْصَالٍ " هنا ، بمعنى مُصَلْصِل ؛ كزَلْزالٍ ، بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون " فَعْلال " –أيضاً- مصدراً ، ويجوز كسره أيضاً ، وفي هذا النَّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلافٌ .

فقيل : وزنه : فَعْفَع ؛ كُرِّرتِ الفاء والعين ، ولا لام للكلمة ؛ قاله الفراء ، وغيره . وهو غلطٌ ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة : فاءٌ ، وعينٌ ، ولامٌ .

والثاني : أنَّ وزنه " فَعْفَل " : ؛ وهو قول الفرَّاء .

الثالث : أنه " فَعَّل " بتشديد العين ، وأسله " صَلَّل " فلما اجتمع ثلاثة أمثالٍ ، أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة ، وهو مذهب كوفيٌّ ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف ، بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوطِ الثالث ، نحو " لَمْلَمَ " و " كَبْكَبَ " فإنَّك تقول فيهما : " لَمَّ " ، و " كَبَّ " ، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه ؛ نحو : " سَمْسَمَ " ، قال : فلا خلافَ في أصالة الجميع .

قوله تعالى : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فيه وجهان :

أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل " صَلْصَالِ " ؛ فيتعلق بمحذوف .

والثاني : أنه بدل من " صَلْصالٍ " بإعادة الجارِّ . والحَمَأ : الطِّينُ الأسودُ المنتنُ .

قال الليث -رحمه الله- : واحده " حَمَأة " بتحريك العين جعله اسم جنسٍ ؛ وقد غلط في ذلك ؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلاَّ " حَمْأة " [ بالإسكان ]{[19517]} ، ولا يعرف التحريك ؛ نصَّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة ؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ : [ الوافر ]

تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً *** تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ{[19518]}

فلا يكون " الحَمَأة " واحدة " الحَمْأ " ؛ لاختلاف الوزنين .

والمَسْنُون : المَصْبُوب ؛ من قولهم : سَنَنتُ الشَّرابَ ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسانٍ ، كما تفرغ الجواهر المذابة .

قال الزمخشريُّ{[19519]} : وحقُّ " مَسْنُونٍ " بمعنى مصور : أن يكون صفة ل " صَلْصالٍ " ؛ كأنه أفرغ الحمَأ ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ . يعني أنه يصيرُ التقدير : من صلصالٍ مصوَّرٍ ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح ؛ إذا جعلنا : " مِنْ حَمَأ " صفة ل " صَلْصَالٍ " ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه ؛ فلا .

وقيل : مسنونٌ : مصوَّرٌ من سنَّة الوجه ، وهي صورته ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]

تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19520]}

وقال الزمخشريُّ : والمَسْنُونُ : المَحْكُوكُ ، مأخوذٌ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً .

ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا ؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه .

وقيل : المسنونُ : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائل أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر ، وهذا غلط ؛ لاختلافِ المادتين .

رُوِيَ أنَّ الله –تعالى- خمَّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود ، ثم خلق منه آدم -صلوات الله وسلامه عليه- .


[19512]:ينظر: الفخر الرازي 19/142.
[19513]:تقدم تخريجه.
[19514]:ينظر: مجاز القرآن 1/350.
[19515]:البيت في المخطوط هكذا: وتشـــــرب أسـاوى القطـا الكـدر *** بعدمـا سرب فرمى أحيـاؤها بصلصل
[19516]:ينظر: الكشاف 2/576.
[19517]:في ب: بالسكون.
[19518]:ينظر: الديوان 3، مجاز القرآن 1/413، والبحر المحيط 5/432 والدر المصون 4/295.
[19519]:ينظر: الكشاف 2/576.
[19520]:صدر بيت لذي الرمة وعجزه: .............................. *** مــلسـاء لـيـس بـها خـال ولا نـدب ينظر: ديوانه (8)، الخزانة 2/324، اللسان والتاج "قرف"، وشواهد المغني للبغدادي 8/74، والمعاني للفراء 2/74، الطبري 13/132، والبحر المحيط 5/440، والألوسي 14/34، والقرطبي 5/435، والدر المصون 4/296.