قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ } الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد ؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل ، هو أولُ الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخلوقٍ من الأبوين ؛ فيكون مخلوقاً -لا محالة- بقدرة الله –تعالى- .
فقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ -صلوات الله وسلامه عليه- .
ونقل في كتب الشِّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنَّه قال : قد انقضى قبل آدم -صلوات الله عليه- الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر .
قال ابنُ الخطيب{[19512]} -رحمه الله- : " وهذا لا يقدحُ في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع " .
واعلم أنه –تعالى- قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة .
واعلم أنه –تعالى- قادر على خقله من أي جنس أراد ، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة ؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه .
وسمِّي إنساناً : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمَّا من النسيان ؛ لأنه عهد إليه فنسِي .
عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال : بعث الله –تعالى- جِبْريلَ -عليه السلام- إلى الأرض ؛ ليأتيه بطينٍ منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي ؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربِّ : أنها عاذتْ بك ، فأعذتها ، فبعث ميكائيل -صلوات الله عليه- فعاذت منه ، فأعاذها ؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموتِ ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، ولم يأخذ من مكان واحدٍ ، وأخذ من تربةٍ حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين{[19513]} .
وسُمِّي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : " أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك " ؟ فقال : رأيتُ أمرك أوجب من قولها ، فقال -جل ذكره- : " أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً ، وهو يلتصق بعضه ببعضٍ ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنوناً ، وهو المنتنُ .
ثم قال للملائكة : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } ، فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه ، لقوله الله تعالى : أتتكبَّر على ما علمت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه ؟ .
فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً ، فلما رأتهُ الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به ، فيضربه ؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار ، وتكون له صلصلةٌ ؛ فذلك قوله : { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خلقت ! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه ؛ فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه ، لأهلكنَّه ، فلمَّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة -عليه السلام- : قُل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربُّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروحُ جوفه ، اشتهى الطعام ؛ فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة ، فذلك قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] .
قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } ، " مِنْ " : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض ، والصلصالُ : قال أبو عبيده{[19514]} : هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفُّ ؛ فسمع له صلصلةٌ ، أي : تصويت ، قال : والصلصلةُ : الصَّوتُ ؛ وأنشدوا : [ الكامل ]
شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ *** وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ{[19515]}
أراد : صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا ، حين تطيرُ ، أو أصواتَ أفراخها .
وقال الزمخشريُّ{[19516]} : " الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ ، فإذا طبخ ، فهو فخار " .
وقال أبو الهيثم : " هو صوتُ اللِّجامِ ، وما أشبهه ؛ كالقعقعة في الثوب " .
وقال الزمخشري –أيضاً- : قالوا : إذا توهَّمت في صوته مدًّا ، فهو صليلٌ ، وإن توهمت فيه خفاءً ، فهو صلصلةٌ ، وقيل : هو من تضعيف " صَلَّ " ، إذا أنتن أنتهى .
و " صَلْصَالٍ " هنا ، بمعنى مُصَلْصِل ؛ كزَلْزالٍ ، بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون " فَعْلال " –أيضاً- مصدراً ، ويجوز كسره أيضاً ، وفي هذا النَّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلافٌ .
فقيل : وزنه : فَعْفَع ؛ كُرِّرتِ الفاء والعين ، ولا لام للكلمة ؛ قاله الفراء ، وغيره . وهو غلطٌ ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة : فاءٌ ، وعينٌ ، ولامٌ .
والثاني : أنَّ وزنه " فَعْفَل " : ؛ وهو قول الفرَّاء .
الثالث : أنه " فَعَّل " بتشديد العين ، وأسله " صَلَّل " فلما اجتمع ثلاثة أمثالٍ ، أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة ، وهو مذهب كوفيٌّ ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف ، بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوطِ الثالث ، نحو " لَمْلَمَ " و " كَبْكَبَ " فإنَّك تقول فيهما : " لَمَّ " ، و " كَبَّ " ، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه ؛ نحو : " سَمْسَمَ " ، قال : فلا خلافَ في أصالة الجميع .
قوله تعالى : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فيه وجهان :
أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل " صَلْصَالِ " ؛ فيتعلق بمحذوف .
والثاني : أنه بدل من " صَلْصالٍ " بإعادة الجارِّ . والحَمَأ : الطِّينُ الأسودُ المنتنُ .
قال الليث -رحمه الله- : واحده " حَمَأة " بتحريك العين جعله اسم جنسٍ ؛ وقد غلط في ذلك ؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلاَّ " حَمْأة " [ بالإسكان ]{[19517]} ، ولا يعرف التحريك ؛ نصَّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة ؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ : [ الوافر ]
تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً *** تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ{[19518]}
فلا يكون " الحَمَأة " واحدة " الحَمْأ " ؛ لاختلاف الوزنين .
والمَسْنُون : المَصْبُوب ؛ من قولهم : سَنَنتُ الشَّرابَ ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسانٍ ، كما تفرغ الجواهر المذابة .
قال الزمخشريُّ{[19519]} : وحقُّ " مَسْنُونٍ " بمعنى مصور : أن يكون صفة ل " صَلْصالٍ " ؛ كأنه أفرغ الحمَأ ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ . يعني أنه يصيرُ التقدير : من صلصالٍ مصوَّرٍ ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح ؛ إذا جعلنا : " مِنْ حَمَأ " صفة ل " صَلْصَالٍ " ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه ؛ فلا .
وقيل : مسنونٌ : مصوَّرٌ من سنَّة الوجه ، وهي صورته ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19520]}
وقال الزمخشريُّ : والمَسْنُونُ : المَحْكُوكُ ، مأخوذٌ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً .
ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا ؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه .
وقيل : المسنونُ : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائل أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر ، وهذا غلط ؛ لاختلافِ المادتين .
رُوِيَ أنَّ الله –تعالى- خمَّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود ، ثم خلق منه آدم -صلوات الله وسلامه عليه- .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.