مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

النوع الثاني من الدعاء قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة : وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما ، فإن الجعل عبارة عن الخلق ، قال الله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى ، فإن قيل : هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين ، إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلبا لتحصيل الحاصل وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ، ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد ، بل له معان أخر سوى الخلق . ( أحدها ) : جعل بمعنى صير ، قال الله تعالى : { هو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا } ( وثانيها ) : جعل بمعنى وهب ، نقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس . ( وثالثها ) : جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } وقال : { وجعلوا لله شركاء الجن } ( ورابعها ) : جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : { وجعلناهم أئمة } يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : { إني جاعلك للناس إماما } فهو بالأمر . ( وخامسها ) : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتبا وشاعرا إذا علمته ذلك . ( وسادسها ) : البيان والدلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلا إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك ، إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصا وجعلني فاضلا أديبا إذا وصفه بذلك ، سلمنا أن المراد من الجعل الخلق ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلما له ، ومثاله : من يؤدب ابنه حتى يصير أديبا فيجوز أن يقال : صيرتك أديبا وجعلتك أديبا ، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصا محتالا ، سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقا للإسلام ، لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به ، وإنما قلنا : أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقا لله تعالى لما استحق العبد به مدحا ولا ذما ، ولا ثوابا ولا عقابا ، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد . ( والجواب ) : قوله : الآية متروكة الظاهر ، قلنا : لا نسلم وبيانه من وجوه . ( الأول ) : أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله : { واجعلنا مسلمين لك } أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائما ، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال .

( الثاني ) : أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } { والذين اهتدوا زادهم هدى } وقال إبراهيم : { ولكن ليطمئن قلبي } فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق ، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال . ( الثالث ) : أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد ، فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله : { مسلمين لك } فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته ، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال ، فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر ، قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك ، قلنا : هذا مدفوع من وجوه :

( أحدها ) : أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة ، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة ، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه ، قلنا : نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به ، فكان حمله على الأول أولى . ( وثانيها ) : أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب ، فكان ذلك الوصف حاصلا وأي فائدة في طلبه بالدعاء . ( وثالثها ) : أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلما جاز أن يقال جعله مسلما ، أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف ، قلنا : هذا أيضا مدفوع من وجوه . ( أحدها ) : أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر . ( وثانيها ) : أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة ، فطلبها يكون طلبا لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز . ( وثالثها ) : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون ، فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفا وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع ، فإن وجب فهو المطلوب ، وإن امتنع فهو مانع لا مرجح ، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلا وقد فرضناه كذلك هذا خلف ، وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال ، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول ، قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم ، قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مرارا وأطوارا والله أعلم .

واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الإسلام ؟ قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك ، ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا ؟ فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين ، وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر ، فإذن لا قدرة إلا على الوجود ، فالقدرة غير صالحة إلا للوجود ، وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل ، فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح ، ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل الله تعالى قطعا للتسلسل ، وعند حصول المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل ، فثبت أن قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية .

المسألة الثانية : قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } يفيد الحصر أي أن نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلما لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره ، وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه ، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ثم ههنا قولان : ( أحدهما ) : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك . ( والثاني ) : قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه .

المسألة الثالثة : أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله : ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } في شرائط الدعاء .

أما قوله تعالى : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } فالمعنى : واجعل من أولادنا و ( من ) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } ومن الناس من قال : أراد به العرب لأنهم من ذريتهما ، و{ أمة } قيل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله : { وابعث فيهم رسولا منهم } وههنا سؤالات :

السؤال الأول : قد بينا أن قوله : { لا ينال عهدي الظالمين } كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالما فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالما ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوما بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى ؟

( الجواب ) : تلك الدلالة ما كانت قاطعة ، والشفيق بسوء الظن مولع .

السؤال الثاني : لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء ؟

( والجواب ) : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات ، ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم .

السؤال الثالث : الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه ، وحينئذ يتوجه الإشكال ، فإن في زمان أجداد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد من العرب مسلما ، ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .

( والجواب ) : قال القفال : أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ، ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية : زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعامر ابن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة ، والثواب والعقاب ، ويوحدون الله تعالى ، ولا يأكلون الميتة ، ولا يعبدون الأوثان .

أما قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في { أرنا } قولان ، ( الأول ) : معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا الناس إلى حجه ، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم ، قال الله تعالى : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } ( الثاني ) : أظهرها لأعيننا حتى نراها . قال الحسن : إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها ، حتى بلغ عرفات ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك ؟ قال : نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل ، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات .

وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معا . وهو قول القاضي لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معا وأنه جائز ، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان ، فمن قال بالقول الثاني قال : إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ، ومن قال بالأول قال : إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف .

المسألة الثانية : النسك هو التعبد ، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكا والذبيحة نسيكة ، وسمي أعمال الحج مناسك . قال عليه السلام : ( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى : مناسك أيضا ، ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل ، وبكسر السين بمعنى المواضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب ، قال الله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه } قرئ بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدل على الفعل ، وكذلك قوله عليه السلام : ( خذوا عني مناسككم ) أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد : خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول : إن حملنا المناسك على مناسك الحج ، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال ، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط ، وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبد ، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكا ، وهو كونه عملا من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال ، فوجب دخول الكل فيه وإن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله : { وأرنا مناسكنا } أي علمنا كيف نعبدك ، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه .

المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات { أرنا } بإسكان الراء في كل القرآن ، ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد ، في حم السجدة { أرنا الذين أضلانا } وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن ، والباقون بالكسرة مشبعة ، وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة ، نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ، ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة ، وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم : فخذ وكبد ، وأما الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة .

أما قوله : { وتب علينا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال : لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلبا للمحال ، وأما المعتزلة فقالوا : إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة ، ولقائل أن يقول : إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال ، لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال .

وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها ، وهي من وجوه . ( أولها ) : يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشددا في الإنصراف عن المعصية ، لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد ، كان أقرب إلى ترك المعاصي ، فيكون ذلك لطفا داعيا إلى ترك المعاصي ، ( وثانيها ) : أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه : إما على سبيل السهو ، أو على سبيل ترك الأولى ، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك . ( وثالثها ) : أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالما عاصيا ، لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال : { وتب علينا } أي على المذنبين من ذريتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول : أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده : إن ولدي أذنب فاقبل عذره ، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه . ( الأول ) : ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهم أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه . ( الثاني ) : ذكر أن في قراءة عبد الله : وأرهم مناسكهم وتب عليهم . ( الثالث ) : أنه قال عطفا على هذا : { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } . ( الرابع ) : تأولوا قوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } بجعل خلقه إياه خلقا لهم إذ كانوا منه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : { أرنا مناسكنا } أي أرنا ذريتنا .

المسألة الثانية : احتج الأصحاب بقوله : { وتب علينا } على أن فعل العبد خلق لله تعالى ، قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله تعالى محالا وجهلا ، قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا . فقال : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } ولو كانت فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا وجهلا ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : { وتب علينا } على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد ، قال الأصحاب : الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه . ( أولها ) : أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة ، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة . ( وثانيها ) : أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله : عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة : علم وحال وعمل ، فالعلم أول والحال ثان وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال ، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب ، يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة ، وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى : إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل ، أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابسا له ، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر ، وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين ، فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب ، ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان ، أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول : إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضا ضروري ، فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالبا للمضار ، ودفعا للمنافع أيضا أمر ضروري ، فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف .

بقي أن يقال : الداخل تحت التكليف هو العلم ، إلا أن فيه أيضا إشكالا ، لأن ذلك العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، فإن كان ضروريا لم يكن داخلا تحت الاختبار والتكليف أيضا ، وإن كان نظريا فهو مستنتج عن العلوم الضرورية . فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول ، إما أن يكون كافيا في ذلك الإنتاج أو غيره كاف ، فإن كان كافيا كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولا على تلك العلوم الضرورية واجبا ، والذي يجب ترتبه على ما يكون خارجا عن الاختيار ، كان أيضا خارجا عن الاختيار ، وإن لم يكن كافيا فلا بد من شيء آخر ، فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلا فالذي فرضناه غير كاف ، وقد كان كافيا ، هذا خلف ، وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولا للعلوم النظرية ، وهذا خلف . ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال ، فثبت بما ذكرنا آخرا أن قوله تعالى : { وتب علينا } محمول على ظاهره ، وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل .

أما قوله : { إنك أنت التواب الرحيم } فقد تقدم ذكره .