السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

{ ربنا واجعلنا مسلمين } أي : منقادين مخلصين خاضعين { لك } والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان { و } اجعل { من ذريتنا } أي : أولادنا { أمّة } أي : جماعة { مسلمة } خاضعة منقادة { لك } ومن للتبعيض أي : واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء ؛ لأنهم أحق بالشفقة ؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع .

ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } ( البقرة ، 124 ) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا ، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم } ( النور ، 55 ) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في قوله تعالى : { خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ } ( الطلاق ، 12 ) وقيل : أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم .

{ وأرنا } علّمنا { مناسكنا } شرائع ديننا وإعلام حجنا ، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره ، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم قال : نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات ، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة { وتب علينا } سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة { إنك أنت التوّاب } لمن تاب { الرحيم } به .