مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (199)

قوله تعالى{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } .

فيه قولان الأول : المراد به الإفاضة من عرفات ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها : أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها : أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون : نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها : أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم ، لكان ذلك يوهم نقصا في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمرا لهم بأن يقفوا في عرفات ، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس ، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميرا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات ، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها ، وأمر سائر الناس بالوقوف بها ، وعلى هذا التأويل فقوله : { من حيث أفاض الناس } يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإفاضة من عرفات من يقول قوله : { ثم أفيضوا } أمر عام لكل الناس ، وقوله : { من حيث أفاض الناس } المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ، ويخالف الحمس ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا يقتدي به ، وهو كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } يعني نعيم بن مسعود { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ، ومنه قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله ، وهو أن يكون قوله : { من حيث أفاض الناس } عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال : هذا مما فعله الناس قديما ، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال : المراد من هذه الإفاضة من عرفات .

القول الثاني : وهو اختيار الضحاك : أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله : { من حيث أفاض } المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما ، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس ، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالا :

أما الإشكال على القول الأول : فهو أن قوله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله : { فإذا أفضتم من عرفات } لمكان { ثم } فإنها توجب الترتيب ، ولو كان المراد من هذه الآية : الإفاضة من عرفات ، مع أنه معطوف على قوله { فإذا أفضتم من عرفات } كان هذا عطفا للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية : فإذا أفضتم من عرفات ، ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الآية متقدمة على ما قبلها ، والتقدير : فاتقون يا أولي الألباب ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله ، وعلى هذا الترتيب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها .

قلنا : هذا وإن كان محتملا إلا أن الأصل عدمه ، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه .

وأما الإشكال على القول الثاني : فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ { من حيث } في قوله : { من حيث أفاض الناس } على الزمان ، وذلك غير جائز ، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان .

أجاب القائلون بالقول الأول : عن ذلك السؤال بأن { ثم } ههنا على مثال ما في قوله تعالى : { وما أدراك ما العقبة فك رقبة } إلى قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } أي كان مع هذا من المؤمنين ، ويقول الرجل لغيره : قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة { ثم } ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه .

وأجاب القائلون بالقول الثاني : بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدا فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملا في الآخر على سبيل المجاز .

أما قوله : { من حيث أفاض الناس } فقد ذكرنا أن المراد من { الناس } إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وأتباعهما ، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري . أن المراد بالناس في هذه الآية : آدم عليه السلام ، واحتج بقراءة سعيد بن جبير { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وقال : هو آدم نسي ما عهد إليه ، ويروى أنه قرأ { الناس } بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء ، والمعنى : أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه .

أما قوله تعالى : { واستغفروا الله } فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب ، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما ، وأما الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب .

فإن قيل : كيف أمر بالاستغفار مطلقا ، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار .

والجواب : أنه إن كان مذنبا فالاستغفار واجب ، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ، وجب عليه الاستغفار أيضا تداركا لذلك الخلل المجوز ، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه البتة خلل في شيء من الطاعات ، فهذا كالممتنع في حق البشر ، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد ، فكيف في أعمال كل العمر ، إلا أن بتقدير إمكانه فالاستغفار أيضا واجب ، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ، ولهذا قالت الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فكان الاستغفار لازما من هذه الجهة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة »

وأما قوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } قد علمت أن غفورا يفيد المبالغة ، وكذا الرحيم ، ثم في الآية مسألتان :

المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب ، لأنه تعالى لما أمر المذنب بالاستغفار ، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة ، فهذا يدل قطعا على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه .

المسألة الثانية : اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون : إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع ، وقال آخرون : إنها عند الدفع من الجمع إلى منى ، وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله : { ثم أفيضوا } على أي الأمرين يحمل ؟ قال القفال رحمه الله : ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة فقال : « يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله » فقال أصحابه : يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئا لم يجد لي به : سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : التبعات ضمنت عوضها من عندي » اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين .