غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (199)

197

{ ثم أفيضوا } في هذه الإفاضة قولان : أحدهما أنه الإفاضة من عرفات ؛وعلى هذا فالأكثرون قالوا : إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس ، لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره ، فالوقوف به أولى . وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعاً وكبراً . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات . فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك ؟ فلا تذهب . فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها . والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة . ومعنى { ثم } التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول " أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم " تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره ، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه . وصيرورة المعنى : فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات ، لا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع . ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعاً . وقوله { من حيث أفاض الناس } المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس . وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً مقتدى به . { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود { إن الناس } يعني أبا سفيان . ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { من حيث أفاض الناس } عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال " هذا مما فعله الناس قديماً " . القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله { من حيث أفاض الناس } يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأورد على هذا القول أن استعمال { حيث } للزمان قليل ، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به . وعن الزهري : أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير { من حيث أفاض الناس } بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } [ طه : 115 ] والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه . { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم ، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة . والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان ، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالاً ما عبدناك حق عبادتك . وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " ولو اقتصر على قوله " أستغفر الله " كفى . ولو زاد فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم . أو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام . من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها ، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسناً .

{ إن الله غفور رحيم } بناءان للمبالغة كما مر مراراً . واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية . فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة ، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر .

/خ203