الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (199)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ } استشكل الناسُ مجيءَ " ثم " هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى ؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة ، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناسِ ، فكيف يُجاء ب " ثم " التي تقتضي الترتيب والتراخيَ ؟ وفي ذلك أجوبةٌ : أحدُها : أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها ، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ . والثاني : أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه : { واتقوني يا أولي } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ . الثالث : أن تكونَ " ثم " بمعنى الواو ، وقد قال به بعضُ النحويين ، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الاول . الرابع : أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جَمْعٍ إلى مُنى ، والمخاطبون بها جميعُ الناس ، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري ، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا ف " ثم " على بابها ، قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف موقعُ " ثم " ؟ قلت : نحوُ موقِعها في قولك : " أحْسِنْ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم " تأتي ب " ثم " لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما ، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال : " ثم أفيضوا " لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ " . قال الشيخ : " وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله ، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن " ثم " تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ/ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها ، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء " ثم " لتفاوتِ ما بينها ، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم " . وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين . وسيأتي له نظائرُ ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل .

و " من حيث " متعلِّقٌ بأَفيضوا ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، و " حيث " هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ ، وقال القفال : " هي هنا لزمانِ الإِفاضة " وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش ، وتقدَّم دليلُه ، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء " ثم " هنا ، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه .

و " أفاض الناسُ " في محلِّ جرٍّ بإضافة " حيثُ " إليها . والجمهورُ على رفعِ السين من " الناسُ " .

وقرأ سعيد بن جبير : " الناسي " وفيها تأويلان ، أحدهما : أنه يُراد به آدمُ عليه السلام ، وأيَّدوه بقوله : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] . والثاني : أن يُراد به التاركُ للوقوف بمزدلفة ، وهم جَمْعُ الناس ، فيكون المرادُ بالناسي حنسَ الناسين . قال ابن عطية : " ويجوزُ عند بعضِهم حذفُ الياءِ ، فيقول : " الناس كالقاضِ والهادِ " قال : أمّا جوازُه في العربية فذكره سيبويه ، وأمّا جوازُه قراءَةً فلا أحفظه " . قال الشيخ : " لم يُجِزْ سيبويه ذلك إلا في الشعر ، وأجازه الفراء في الكلامِ ، وأمّا قوله : " لم أحفظْه " قد حَفِظَه غيرُه ، حكاها المهدوي قراءةً عن سِعيد بن جبير أيضاً .

قوله : { وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ } " استغفر " يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه ، والثاني " ب " مِنْ " ، نحو : استغفرتُ الله من ذنبي ، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه :

أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه *** ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ

هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس . وقال ابن الطراوة : إنه يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً ، وإنما يتعدَّى ب " من " لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده " استغفرت الله من كذا " بمعنى تُبْت إليه من كذا ، ولم يَجِىءْ " استغفر " في القرآن متعدِّياً إلاَّ للأولِ فقط ، فأمَّا قولُه تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ }

[ غافر : 55 ] { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [ يوسف : 29 ] { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ }

[ آل عمران : 135 ] فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ لا لامُ التعديةِ ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به . وأمّا " غَفَر " فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 135 ] ، وحُذِف أخرى : { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 40 ] . والسين في " استغفر " للطلبِ على بابها . والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به ، أي : مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم .