الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (199)

قوله : /( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) [ 198 ] .

أمر الحمس وهم قريش أن يفيضوا من حيث أفاض جميع الناس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة افتخاراً وتعالياً ، ويقولون : نحن أهل الحرم ، فلا نخرج( {[6514]} ) منه إلى عرفات . فأمروا أن يقفوا مع الناس( {[6515]} ) . ويفيضوا من حيث أفاض الناس أي من عرفة( {[6516]} ) .

قالت عائشة رضي الله عنها : " كانت قريش ومَن دانها يقفون بالمزدلفة( {[6517]} ) ، ويقف الناس بعرفة فأمروا أن يقفوا( {[6518]} ) مع الناس " ( {[6519]} ) . وقال الضحاك : " معنى الآية : أن الله تعالى أمر جميع الناس أن يفيضوا( {[6520]} ) من حيث أفاض الناس قبلهم " ( {[6521]} ) .

والناس هم إبراهيم( {[6522]} ) صلى الله عليه وسلم ومن كان معه وذلكن جمع( {[6523]} ) .

وتقدير ( ثُمَّ أَفِيضُوا ) : ثم أمرهم بذلك على معنى التأكيد لما أمر الله به أوّلاً ، لأنه تعالى قد ذكر المشعر والإفاضة من عرفات قبل ذلك ثم قال : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) . فإن كان/عرفات فليس الإفاضة من عرفات بعد الذكر في المشعر الحرام ، فالمعنى هو التأكيد لا أنه اتباع حكم لحكم( {[6524]} ) تقدم( {[6525]} ) .

وروي أن قريشاً كانت قد ابتدعت أشياء منها أنهم امتنعوا أن يَقِفُوا بعرفات لأجل أنها في الحل ، فقالوا : لا ينبغي لنا أن نعظم( {[6526]} ) إلا الحُرُم ، فكانوا وحلفاؤهم( {[6527]} ) يقفون يوم عرفة بمزدلفة ، ويقف سائر العرب بعرفات وسموا أنفسهم ومَن وَالاَهم على ذلك الحمس ، وابتدعوا ألا يأتقطوا( {[6528]} ) الأقِط ولا يسألوا السمن وهم محرمون ، ولا يدخلوا( {[6529]} ) بيتاً من شعر وهم حرم ، ولا يستظلوا( {[6530]} ) وهم حرم إلا في بيوت الأُدْم ، ولا يأكلوا وهم حرم من طعام( {[6531]} ) جيء به من الحل ، وابتدعوا ألا [ يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب ]( {[6532]} ) الحمس ، فإن لم يجد ذلك طاف عرياناً . فإذا تم طوافه أخذ ثيابه ، فإن طاف أَحَدٌ بثيابه ألقاها إذا فرغن طوافه ، فلا يأخذها أبداً هو ولا غيره . وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللُّقَى ، وسمحوا للمرأة أن تدع( {[6533]} ) عليها درعها( {[6534]} ) . فلم يزل الأمر كذلك حتى بعث الله محمداً( {[6535]} ) صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : ( ثُمَّ( {[6536]} ) أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) . يعني قريشاً إذ( {[6537]} ) كانت تفيض من مزدلفة( {[6538]} ) .

وقيل : يعني سائر العرب ، إذ( {[6539]} ) كانوا يفيضون من عرفات ، فيكون في الكلام على هذا القول تقديم وتأخير ، وفي ذلك أنزل : ( يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا )( {[6540]} ) فأباح لهم ما حرموا على أنفسهم من لبس الثياب ، والطعام والشراب . وقد قيل : إن " ثُمَّ " بمعنى الواو في هذا .

فأما المعنى على قول الضحاك : فثم على بابها ، لأنه يقول : أمرهم أن يفيضوا من جمع ، والإفاضة من جمع لاشك أنها بعد الوقوف بمزدلفة وبعد الإفاضة من عرفات( {[6541]} ) .

وقد قال الطبري : " إن من قال : إنه عرفات ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، وتقدير . ومعناه : ( فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ ) ، ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) ، قال : " ولولا الإجماع( {[6542]} ) من أهل التأويل على أن المراد بقوله ( ثُمَّ أَفِيضُوا ) من عرفات ، لكان قول الضحاك هو الوجه البين ؛ إن المراد به " جمع " لأنه على ترتيب الكلام وسياقه ولا تقديم فيه ولا تأخير " ( {[6543]} ) .

ويدل على أن المراد به " جمع " ، قوله : ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ) وذلك أن النبي [ عليه السلام( {[6544]} ) ] قال : " دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لأُمَّتِي ذُنُوبَهَا ، فَأَجَابَنِي : أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ( {[6545]} ) إِلاَّ ذُنُوبَهَا/فيمَا بَيْنَهَ وَبَيْنَ خَلْقِي ، فَأعْدَتُ الدُّعَاءَ يَوْمَئِذٍ ، فَلَمْ أُجَبْ شَيْئاً ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ المُزْدَلِفَةِ قُلْتُ : يَا رَبِّ ، إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُعَوِّضَ( {[6546]} ) هَذَا المَظْلُوم مِنْ ظَلاَمَتِهِ ، وَتَغْفِرُ لِهَذَا الظَّالِمِ( {[6547]} ) ، فَأَجَابَنِي أَنِي قَدْ غَفَرْتُ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ضَحِكْتُ مِنْ عَدُوِّ اللهِ إِبْلِيسَ لَمَّا سَمِعَ مَا سَمِعَ ، أَهْوَى يَدْعُو بِالوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ " ( {[6548]} ) . فأمر/المسلمون أن يستغفروا في ذلك الموضع الذي غفر الله [ لهم فيه ]( {[6549]} ) التبعات فيما بينهم وهي أعظم من التبعات فيما بينهم وبين الله .

ومعنى : ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ )( {[6550]} ) . استدعوا المغفرة( {[6551]} ) .


[6514]:- في ع2: تخرج. وهو تصحيف.
[6515]:- قوله: "بعرفة كتجار...مع الناس" سقط من ع3.
[6516]:- انظر: هذا التوجيه في تفسير الغريب 79، وتفسير القرطبي 2/427.
[6517]:- في ع3: المزدلفة.
[6518]:- سقط قوله: "أن يقفوا" من ق.
[6519]:- انظر: صحيح البخاري 5/158، وصحيح مسلم 2/893، وأسباب النزول 58.
[6520]:- في ع2: أفيضوا.
[6521]:- انظر: جامع البيان 4/198، وتفسير القرطبي 2/427.
[6522]:- في ع3: إبراهيم. وهو تحريف.
[6523]:- في ع2: جميع.
[6524]:- في ق: الحكم. وفي ع3: بحكم.
[6525]:- انظر: تفسير القرطبي 2/427.
[6526]:- في ع2، ع3: يعظم.
[6527]:- في ق: خلفاؤُهم. وهو تصحيف.
[6528]:- في ع3: تعطوا. وهو تحريف. ومعنى أتقط الأَقِط اتخذه. والأَقِط ما يؤخذ من اللبن المخيض. انظر: اللسان 1/76.
[6529]:- في ع2: يدخلون. وهو خطأ.
[6530]:- في ع3: يستظلوه.
[6531]:- في ع2: بطعام.
[6532]:- في ق: يطوفوا القادم إلى البيت إلى في ثبات.
[6533]:- في ق: تدعوا. وهو خطأ.
[6534]:- في ع1، ق، ع3: ذرعها. وهو تصحيف.
[6535]:- في ع2: سيدنا محمداً. وفي ع3: سيدنا محمد.
[6536]:- سقط من ع3.
[6537]:- في ع3: إذا.
[6538]:- انظر: سيرة ابن هشام 1/211-212، وجامع البيان 4/118-119.
[6539]:- في ع3: إذا.
[6540]:- الأعراف آية 29.
[6541]:- انظر: هذا الاستدلال في جامع البيان 4/190.
[6542]:- في ع3: إجماع.
[6543]:- انظر: جامع البيان 4/190.
[6544]:- في ع2، ع3: صلى الله عليه وسلم.
[6545]:- في ع1، ق: عفوت.
[6546]:- في ق: تعرض. وهو تحريف.
[6547]:- في ع3: لظالم. وهو تحريف.
[6548]:- انظر: سنن ابن ماجه 2/1002.
[6549]:- في ق: بهم فيها. وهو تحريف.
[6550]:- سقط لفظ الجلالة "الله" من ع2، ق، ع3.
[6551]:- انظر: مفردات الراغب 374-375.