مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

قوله تعالى { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } .

اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم لأن قوله تعالى حكاية عنهم { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا } كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ، ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى ، ثم إن ذلك النبي لما قال : { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } كان هذا دليلا قاطعا في كون طالوت ملكا ، ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق ، ضم إلى ذلك الدليل دليلا آخر يدل على كون ذلك النبي صادقا في ذلك الكلام ، ويدل أيضا على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز ، ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ، فلهذا قال تعالى : { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقا للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله ، دالة على صدق تلك الدعوى ، ثم قال أصحاب الأخبار : إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده ، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل ، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت ، قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره ، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت ، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت ، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكا لهم ، فذلك هو قوله تعالى : { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } والإتيان على هذا مجاز ، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعا ، كما يقال : ربحت الدراهم ، وخسرت التجارة .

والرواية الثانية : أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه ، وكان من خشب ، وكانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل ، ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران ، بل نزل من السماء إلى الأرض ، والملائكة كانوا يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعا ، لأن من حفظ شيئا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق ، وإن كان الحامل غيره .

واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة ، ثم فيه احتمالان أحدهما : أن يكون مجىء التابوت معجزا ، وذلك هو الذي قررناه والثاني : أن لا يكون التابوت معجزا ، بل يكون ما فيه هو المعجز ، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خاليا ، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت ، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا ، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتابا يدل على أن ملكهم هو طالوت ، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزا قاطعا دالا على أنه من عند الله تعالى ، ولفظ القرآن يحتمل هذا ، لأن قوله : { يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : وزن التابوت إما أن يكون فعلوتا أو فاعولا ، والثاني مرجوح ، لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد ، نحو : سلس وقلق ، فلا يقال : تابوت من تبت قياسا على ما نقل ، وإذا فسد هذا القسم تعين الأول ، وهو أنه فعلوت من التوب ، وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء ، ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته .

المسألة الثالثة : قرأ الكل : التابوت بالتاء ، وقرأ أبي وزيد بن ثابت { التابوه } بالهاء وهي لغة الأنصار .

المسألة الرابعة : من الناس من قال : إن طالوت كان نبيا ، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا ، ولا يقال : إن هذا كان من كرامات الأولياء ، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي ، وهذا كان على سبيل التحدي ، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات .

والجواب : لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه .

أما قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : { السكينة } فعيلة من السكون ، وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم ، نحو : القضية والبقية والعزيمة .

المسألة الثانية : اختلفوا في السكينة ، وضبط الأقوال فيها أن نقول : المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك .

والقسم الثاني : هو قول أبي بكر الأصم ، فإنه قال : { آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه ، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية .

وأما القسم الأول : وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعا في التابوت ، وعلى هذا ففيه أقوال الأول : وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام ، بأن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويزيل خوف العدو عنهم الثاني : وهو قول علي عليه السلام : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وكان لها ريح هفافة والثالث : قول ابن عباس رضي الله عنهما : هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر .

القول الرابع : وهو قول عمرو بن عبيد : إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم .

واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن ، وهو كقوله في قصة الغار : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } فكذا قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } معناه الأمن والسكون .

واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول : أن قوله : { فيه سكينة } يدل على كون التابوت ظرفا للسكينة والثاني : وهو أنه عطف عليه قوله : { وبقية مما ترك آل موسى } فكما أن التابوت كان ظرفا للبقية وجب أن يكون ظرفا للسكينة .

والجواب عن الأول : أن كلمة { فى } كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام : « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » وقال : « في خمس من الإبل شاة » أي بسببه فقوله في هذه الآية : { فيه سكينة } أي بسببه تحصل السكينة .

والجواب عن الثاني : لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة ، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما .

وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعا في التابوت فقالوا : البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم .

أما قوله : { آل موسى وآل هارون } ففيه قولان الأول : قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري :

" لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود " وأراد به داود نفسه ، لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام .

والقول الثاني : قال القفال رحمه الله : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون ، لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت ، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل هم الأتباع ، قال تعالى : { ادخلوا آل فرعون أشد العذاب } .

وأما قوله : { تحمله الملائكة } فقد تقدم القول فيه .

وأما قوله : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي .