غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

246

قوله عز من قائل { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الآية . اعلم أن ظاهر قوله تعالى { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً } يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إنه لما قال : { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } كان هذا دليلاً قاطعاً على أنه ملك ، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر دل على صدق النبي ، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز . ولهذا كثرت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام . ثم إن مجيء التابوت لابد أن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى . فقيل : إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره . وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت . فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه . وقيل : إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه و كانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل . ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس . وعلى هذا الإتيان حقيقة ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء . أما شكل التابوت فقيل : كان من خشب الشمشار مموهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين . وقرأ أبي وزيد بن ثابت { التابوه } بالهاء وهي لغة الأنصار . وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون " فعلوتا " أو " فاعولا " لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلس وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو " فعلوت " من التوب أي الرجوع لأنه ظرف ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته . والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت ، وقيل : إن طالوت كان نبياً وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقروناً بالتحدي . والجواب أن التحدي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته { فيه سكينةٌ } هي " فعيلة " من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار ، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة . وأما البقية فبمعنى الباقية . يقال : بقي من الشيء بقية . والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئاً حاصلاً في التابوت أولاً ، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " أي بسببها . وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم : كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم . وعن ابن عباس : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر . وعن علي رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها ريح هفافة أي طيبة . وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم . قال بعض العلماء : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت . وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع . قال تعالى : { أدخلوا آل فرعون } [ غافر : 46 ] { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " وأراد به داود نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } بدلالة المعجزة على صدق المدعي وههنا محذوف والتقدير : فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته .

/خ251