التابوت : معروف وهو الصندوق ، وفي التابوت قولان .
أحدهما : إن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه ، بالهاء آخراً ، ويجوز أن تكون الهاء بدلاً من التاء كما أبدلوها منها في الوقف ، في مثل : طلحة فقالوا : طلحه ، ولا يجوز أن يكون : فعلوتا كملكوت ، من : تاب يتوب ، لفقدان معنى الاشتقاق فيه .
والقول الآخر : أنه فعلوت من التوب ، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه ، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته قاله الزمخشري .
قال : ولا يكون فاعولاً لقلة نحو سلس ، وقلق ، ولانه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، وأما بالهاء ففاعول إلاّ فيمن جعل هاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس ، وأنهما من حروف الزيادة ، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث .
السكينة : فعيلة من السكون ، وهو الوقار تقول : في فلان سكينة أي : وقار وثبات .
هارون : أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة .
{ وقال لهم نبيهم ان آية ملكه أن يأتيكم التابوت } ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوّة هذا النبي الذي كان معهم ، ألا ترى إلى قولهم :
{ ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }
ولكن لما أخبرهم الله : { بأن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له .
وقال الطبري ، وحكى معناه عن ابن عباس والسدّي ، وابن زيد : تعنت بنو إسرائيل ، وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله : { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل ، وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم ، وقيل : خيرهم النبي في آية ، فاختاروا التابوت ، ولا يكون إتيان التابوت آية إلاَّ إذا كان يقع على وجه يكون خارقاً للعادة ، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى ، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة ، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز ، وهو سبب لاستقرار قلوبهم ، واطمئنان نفوسهم ؛ ونسبة الاتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي ، إنما يؤتى به ، كقوله : { فإذا عزم الأمور } { فما ربحت تجارتهم }
وقرأ الجمهور : التابوت بالتاء ؛ وقرأ أبيّ وزيد : بالهاء ، وهي لغة الأنصار ، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء ؟ أم أصل ؟ قال ابن عباس ، وابن السائب : كان التابوت من عود الشمشار ، وهو خشب تعمل منه الأمشاط ، وعليه صفائح الذهب ، وقيل : كانت الصفائح مموّهة بالذهب ، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره ، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل ، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حاله ، ولم ينص على تعيين ما فيه ، وأن الملائكة تحمله ، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز ، فذكروا : أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صور الأنبياء ، وبيوت بعددهم ، وآخره بيت محمد صلى الله عليه وسلم ، فتناقله بعد ، أولاده شيث فمن بعده إلى ابراهيم ، ثم كان عند إسماعيل ، ثم عند ابنه قيدار ، فنازعه إياه بنو عمه أولاد إسحاق ، وقالوا له : وقد صرفت النبوّة عنكم إلاَّ هذا النور الواحد ، فامتنع عليهم ، وجاء يوماً يفتحه فتعسر ، فناداه منادٍ من السماء لا يفتحه إلاَّ نبي ، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب ، فحمله على ظهره إلى كنعان ، فدفعه ليعقوب ، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام ، فوضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، ثم توارثها أنبياء بني إسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل ، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه .
وقيل : اتخذ موسى التابوت ليجمع فيه رضاض الألواح .
والسكينة : هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت ، جعل التابوت ظرفاً لها ، وهذا من المجاز الحسن ، وهو تشبيه المعاني بالأجرام ، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة ، فغشيته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له فقال :
وفي حديث أسيد بن حضير ، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث ، وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تلك الملائكة كانت تسمع لذلك ، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم » فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على مضاف ، أي : تلك أصحاب السكينة ، وهم الملائكة المخبر عنهم في حديث أسيد ، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة ، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم ، وقد جاء في ( الصحيح ) : « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة .
وحفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده »
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان ، واستقرار ذلك في قلوبهم ، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه .
والتفكر في أساليبه ، ما يطمئن إليه قلبه ، وتستقر له نفسه ، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك ، فحين تلا نزل ذلك عليه .
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين ، قال قتادة السكينة هنا الوقار .
وقال عطاء : ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال نحوه الزجاج .
وقال الزمخشري : التابوت صندوق التوراة ، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ، والسكينة : السكون والطمأنينة ، وذكر عن عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة ، وقيل : السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدو ، وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتت وسكنوا ، ونزل النصر .
وقيل : بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء ، فإن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويقال : جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح ، والعصا ، وآثار أصحاب نبوتهم ، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم ، وفرق بين مقر تداولته الأيدي ، قد فر مرة ، وغلب عليه مرة ، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن .
وقرأ أبو السماك : سكينة ، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة ، بقوله : فيه ، وهو في موضع الحال ، أي : كائناً فيه سكينة .
و : من ، لابتداء الغاية ، أي : كائنة من ربكم ، فهو في موضع الصفة ، أو متعلقاً بما تعلق به قوله : فيه ، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف ، أي : من سكينات ربكم .
والبقية ؛ قيل : رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، قاله عكرمة .
وقيل : عصا موسى قاله وهب وقيل : عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المنّ ، قاله أبو صالح .
وقيل : العلم والتوراة قاله مجاهد ، وعطاء وقيل : رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل وقيل : قفيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري .
وقيل : العصا والنعلان ، حكاه الثوري أيضاً ، وقيل : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك .
وقيل : التوراة ورضاض الألواح قاله السدّي .
وقيل : لوحان من التوراة ، وثياب موسى وهارون وعصواهما ، وكلمة الله : لا إله إلا الله الحكيم الكريم ، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وقيل : عصا موسى وأمور من التوراة ، قاله الربيع .
ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت ، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه ، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية .
{ مما ترك } في موضع الصفة لبقية ، و : من ، للتبعيض .
و : { آل موسى وآل هارون } هم من الأنبياء ، إليهما من قرابة أو شريعة ، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما ، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد .
ونذكر كيفية فقده إن شاء الله .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما . انتهى .
وقال غيره : آل هنا زائدة ، والتقدير : مما ترك موسى وهارون ، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى ، يريد نفسه ، ولقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ، أي : من مزامير داود ومنه قول جميل :
ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق ، وقول الزمخشري : والآل مقحم لتفخيم شأنهما إن عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون ؟ وإن عنى بالآل الشخص ، فإنه يطلق على شخص الرجل آله ، فكأنه قيل : مما ترك موسى وهارون أنفسهما ، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما ، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما ، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به : أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون ، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما ، وكان ذلك مقحماً لأنه لو قيل : مما ترك موسى وهارون لاكتفى ، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما ، تركا ذلك وورث عنهما .
{ تحمله الملائكة } وقرأ مجاهد : يحمله ، بالياء من أسفل ، والضمير يعود على التابوت ، وهذه الجملة حال من التابوت ، أي حاملاً له الملائكة ، ويحتمل الاستئناف ، كأنه قيل : ومن يأتي به وقد فقد ؟ فقال : { تحمله الملائكة } استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة ، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام ، ولهم القوّة والتمكين والاطلاع بأقدار الله لهم على ذلك ، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم ، وقلبهم مدائن العصاة ، وقبض الأرواح ، وإزجاء السحاب ، وحمل العرش ، وغير ذلك من الأمور الخارقة ، والمعنى : تحمله الملائكة إليكم .
قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت .
قال وهب : قالوا لنبيهم : انعت وقتاً تأتينا به ! فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض .
وقال قتادة : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع ، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ، فأقروا بملكه .
قال ابن زيد : غير راضين ، وقيل : سبى التابوت أهل الأردن ، قرية من قرى بفلسطين ، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم ، فأصبح الصنم تحت التابوت ، فسمروا قدمي الصنم على التابوت ، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت ، وأصنامهم منكسة ، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فدفنوه بالصحراء في متبَّرزٍ لهم ، فكان من تبرز هناك أخذه الناسور والقولنج ، فتحيروا ، وقالت امرأة من أولاد الأنبياء من بني إسرائيل : ما تزالوان ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم ! فاخرجوه عنكم ! فحملوا التابوت على عجلة ، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين ، وضربوا جنوبهما ، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مقدّساً ، إلى أرض بني إسرائيل ، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما ، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت ، فكبروا وحمدوا الله على تمليك طالوت ، فذلك قوله : { تحمله الملائكة } .
وقال ابن عباس : إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة ، وقيل يوم القيامة ، وقيل : عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام .
{ إن في ذلك لآية لكم ، إن كنتم مؤمنين } قيل : الإشارة إلى التابوت ، والأحسن أن يعود على الإتيان أي : إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها ، لأن أولها { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم ، وقيل : علامة لكم على نصركم على عدوّكم ، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا ، فينصرون .
و : إن ، قيل على حالها من وضعها للشرط .
أي : ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل : صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم .
وقيل : إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم ، وقيل : إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكاً .
وقيل : مصدّقين بأن وعد الله حق .
وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، ولم يسألوا تكذيباً لنبيهم ، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة ، والسؤال عن الكيفية لا يكون إنكارا كلياً .