مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ} (37)

ثم قال الزجاج { رجال } مرفوع لأنه لما قال { يسبح له فيها } فكأنه قيل من يسبح ؟ فقيل يسبح رجال .

المسألة السادسة : اختلفوا في هذا التسبيح فالأكثرون حملوه على نفس الصلاة ، ثم اختلفوا فمنهم من حمله على كل الصلوات الخمس ومنهم من حمله على صلاتي الصبح والعصر فقال كانتا واجبتين في ابتداء الحال ثم زيد فيهما ، ومنهم من حمله على التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله ، واحتج عليه بأن الصلاة والزكاة قد عطفهما على ذلك من حيث قال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهذا الوجه أظهر .

المسألة السابعة : الآصال جمل أصل والأصل جميع أصيل وهو العشي وإنما وجد الغدو لأنه في الأصل مصدر لا يجمع والأصيل اسم جمع ، قال صاحب الكشاف بالغدو أي بأوقات الغدو أي بالغدوات وقرئ والإيصال وهو الدخول في الأصيل يقال آصل كأعتم وأظهر ، قال ابن عباس رحمهما الله إن صلاة الضحى لفي كتاب الله تعالى مذكورة وتلا هذه الآية وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة » وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا أو ليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما » .

المسألة الثامنة : اختلفوا في قوله تعالى : { لا تلهيهم تجارة } فقال بعضهم نفى كونهم تجارا وباعة أصلا ، وقال بعضهم بل أثبتهم تجارا وباعة وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم عنها شاغل من ضروب منافع التجارات ، وهذا قول الأكثرين ، قال الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ، ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء فقاموا بالصلاة والزكاة ، وعن سالم نظر إلى قوم من أهل السوق تركوا بياعاتهم وذهبوا إلى الصلاة فقال هم الذين قال تعالى فيهم : { لا تلهيهم تجارة } ، وعن ابن مسعود مثله ، واعلم أن هذا القول أولى من الأول ، لأنه لا يقال إن فلانا لا تلهيه التجارة عن كيت وكيت إلا وهو تاجر ، وإن احتمل الوجه الأول وههنا سؤالات :

السؤال الأول : لما قال : { لا تلهيهم تجارة } دخل فيه البيع فلم أعاد ذكر البيع ؟ قلنا الجواب عنه من وجوه . الأول : أن التجارة جنس يدخل تحت أنواع الشراء والبيع إلا أنه سبحانه خص البيع بالذكر لأنه في الإلهاء أدخل ، لأن الربح الحاصل في البيع يقين ناجز ، والربح الحاصل في الشراء شك مستقبل . الثاني : أن البيع يقتضي تبديل العرض بالنقد ، والشراء بالعكس والرغبة في تحصيل النقد أكثر من العكس . الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجلب ، يقال : اتجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه .

السؤال الثاني : لم خص الرجال بالذكر ؟ والجواب : لأن النساء لسن من أهل التجارات أو الجماعات .

المسألة التاسعة : اختلفوا في المراد بذكر الله تعالى ، فقال قوم : المراد الثناء على الله تعالى والدعوات ، وقال آخرون : المراد الصلوات ، فإن قيل فما معنى قوله : { وإقام الصلاة } ؟ قلنا عنه جوابان : أحدهما : قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها . والثاني : يجوز أن يكون قوله : { وإقام الصلاة } تفسيرا لذكر الله فهم يذكرون الله قبل الصلاة وفي الصلاة .

المسألة العاشرة : قد ذكرنا في أول تفسير سورة البقرة في قوله : { ويقيمون الصلاة } أن إقام الصلاة هو القيام بحقها على شروطها ، والوجه في حذف الهاء ما قاله الزجاج ، يقال أقمت الصلاة إقامة وكان الأصل إقواما ، ولكن قلبت الواو ألفا فاجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاما ، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف وقامت الإضافة ههنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة ، قال وهذا إجماع من النحويين .

المسألة الحادية عشرة : اختلفوا في الصلاة فمنهم من قال هي الفرائض ، ومنهم من أدخل فيه النقل على ما حكيناه في صلاة الضحى عن ابن عباس ، والأول أقرب لأنه إلى التعريف أقرب وكذلك القول في الزكاة أن المراد المفروض لأنه المعروف في الشرع المسمى بذلك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد من الزكاة طاعة الله تعالى والإخلاص ، وكذا في قوله : { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } وقوله : { ما زكى منكم من أحد } وقوله : { تطهرهم وتزكيهم بها } وهذا ضعيف لما تقدم ولأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء ، وهذا لا يحمل إلا على ما يعطى من حقوق المال .

المسألة الثانية عشرة : أنه سبحانه بين أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال : { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته . واختلفوا في المراد بتقلب القلوب والأبصار على أقوال : فالقول الأول أن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار لقوله : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } الثاني : أنها تتغير أحوالها فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها لا تفقه وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تبصر ، فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن ، ومن الظن إلى اليقين ، ومن اليقين إلى المعاينة ، لقوله : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } وقوله : { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } ، الثالث : أن القلوب تتقلب في ذلك اليوم طمعا في النجابة وحذرا من الهلاك والأبصار تنقلب من أي ناحية يؤمر بهم ، أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل الإيمان أم من قبل الشمائل ؟ والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، فإنهم قالوا إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة في ذلك اليوم ، وأهل العقاب لا يرجون العفو ، لكنا بينا فساد هذا المذهب غير مرة . الرابع : أن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقا ، قال الضحاك : يحشر الكافر وبصره حديد وتزرق عيناه ثم يعمى ، ويتقلب القلب من الخوف حيث لا يجد مخلصا حتى يقع في الحنجرة فهو قوله : { إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين } ، الخامس : قال الجبائي المراد بتقلب القلوب والأبصار تغير هيئاتهما بسبب ما ينالها من العذاب ، فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار ومرة بهيئة ما احترق ، قال ويجوز أن يريد به تقلبها على جمر جهنم وهو معنى قوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } .