مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{هَـٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (119)

قوله تعالى{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } .

واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال السيد السرخسي سلمه الله { ها } للتنبيه و { أنتم } مبتدأ و { أولاء } خبره و { تحبونهم } في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون { أولاء } بمعنى الذين و { تحبونهم } صلة له ، والموصول مع الصلة خبر { أنتم } وقال الفراء : { أولاء } خبر ، و { تحبونهم } خبر بعد خبر .

المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أمورا ثلاثة ، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول : قوله { تحبونهم ولا يحبونكم } وفيه وجوه : أحدها : قال المفضل { تحبونهم } تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء { ولا يحبونكم } لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني : { تحبونهم } بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة { ولا يحبونكم } بسبب كونكم مسلمين الثالث : { تحبونهم } بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان { ولا يحبونكم } بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع : قال أبو بكر الأصم { تحبونهم } بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن { ولا يحبونكم } بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس : { تحبونهم } بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب { ولا يحبونكم } لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس : { تحبونهم } أي تخالطونهم ، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم { ولا يحبونكم } أي لا يفعلون مثل ذلك بكم .

واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين ، فالكل داخل تحت الآية ، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعيا من حيث الطبع ، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين .

والسبب الثاني لذلك : قوله تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في الآية إضمار ، والتقدير : وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به ، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر .

المسألة الثانية : ذكر ( الكتاب ) بلفظ الواحد لوجوه أحدها : أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها : أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل ، فلهذا لم يقل الكتب بدلا من الكتاب ، وإن كان لو قاله لجاز توسعا .

المسألة الثالثة : تقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ، ونظيره قوله تعالى : { فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } [ النساء : 104 ] .

السبب الثالث لقبح هذه المخالطة : قوله تعالى : { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } والمعنى : أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل ، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان ، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض ، قال المفسرون : وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم .

ثم قال تعالى : { قل موتوا بغيظكم } وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي .

فإن قيل : قوله { قل موتوا بغيظكم } أمر لهم بالإقامة على الغيظ ، وذلك الغيظ كفر ، فكان هذا أمرا بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز .

قلنا : قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال :

وأيضا فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون .

ثم قال : { إن الله عليم بذات الصدور } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ( ذات ) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن ( ذو ) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور ، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول : فالتقدير : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفي مما تسرونه بينكم ، وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفي عليه أما الثاني : وهو أن لا يكون داخلا في المقول فمعناه : قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني اعلم ما هو أخفي من ذلك ، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ، ثم قول وأن يكون قوله { قل موتوا بغيظكم } أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك ، والله تعالى أعلم .