مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (20)

قوله تعالى{ فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :

الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها : أنه تعالى ذكر الحجة بقوله { الحي القيوم } على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] على صحة النبوة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : { قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا } [ آل عمران : 13 ] ثم بين صحة القول بالتوحيد ، ونفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل ، فبعد هذا قال : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق ، مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد ، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه .

الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله { أسلمت وجهي لله } محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه :

الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } [ آل عمران : 64 ] .

والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } [ النحل : 123 ] ثم إنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] فقول محمد صلى الله عليه وسلم : { أسلمت وجهي } كقول إبراهيم عليه السلام { وجهت وجهي } أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلا تحت قوله { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] .

والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : { فإن حاجوك } يعني فإن نازعوك في قولك { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية .

الوجه الرابع : في كيفية الاستدلال ، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا } [ مريم : 42 ] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن انقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير .

الوجه الخامس : يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وهذا مروي عن ابن عباس .

أما قوله { أسلمت وجهي لله } ففيه وجوه الأول : قال الفراء أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره قال : ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله { يريدون وجهه } [ الكهف : 28 ] أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مر على وجهه الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه .

وأما قوله { ومن اتبعن } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : حذف عاصم وحمزة والكسائي ، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف ، وأثبته الآخرون على الأصل :

المسألة الثانية : { من } في محل الرفع عطفا على التاء في قوله { أسلمت } أي ومعنى اتبعني أسلم أيضا .

فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن .

قلنا : إن الكلام طال بقوله { وجهي لله } فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن .

ثم قال تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب ، سواء كان محقا في تلك الدعوى كاليهود والنصارى ، أو كان كاذبا فيه كالمجوس ، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان .

المسألة الثانية : إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول : أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أميون تشبيها بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني : أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم .

المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن المراد بقوله { فان حاجوك } عام في كل الكفار ، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله { الذين أوتوا الكتاب } ودخل من لا كتاب له تحت قوله { الأميين } .

ثم قال الله تعالى { ءأسلمتم } فهو استفهام في معرض التقرير ، والمقصود منه الأمر قال النحويون : إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام ، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة ، وهي التعبير بكون المخاطب معاندا بعيدا عن الإنصاف ، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان ؛ هل فهمتها ؟ فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليدا قليل الفهم ، وقال الله تعالى في آية الخمر { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه .

ثم قال الله تعالى : { فإن أسلموا فقد اهتدوا } وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه ، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتديا ، ويحتمل أن يريد : فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال : { وإن تولوا } عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم : { فإنما عليك البلاغ } والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه ، وليس عليه قبولهم ثم قال : { والله بصير بالعباد } وذلك يفيد الوعد والوعيد ، وهو ظاهر .