قوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقال النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون }
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ، شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله ، وأيضا بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك ، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبودا ، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك ، بل أنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى ، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله . أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جدا ، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين ، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم ، لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى ، وادعوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق ، حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم ، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين .
المسألة الثانية : في قوله : { وقالت اليهود عزيز ابن الله } أقوال : الأول : قال عبيد ابن عمير : إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء . الثاني : قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة : أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، ومالك بن الصيف ، وقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أن عزيرا ابن الله ، فنزلت هذه الآية ، وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحدا منها ، وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحدا .
والقول الثالث : لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك ، فإن حكاية الله عنهم أصدق . والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه ، فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله ، وقال الكلبي : قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة . وقال السدي : العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة ، فهذا ما قيل في هذا الباب . وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون : المسيح ابن الله ، فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي ، وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة ، فإن هذا أفحش أنواع الكفر ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام ؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد ، وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام ؟ فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال : أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعا من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، وإني أحتال فأضلهم ، فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور ، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت ، وقال : ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله ، وعلم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني ، وإني غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه ، فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى ، هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى ، والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف ، كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ، ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني ، فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال ، قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام ، والله أعلم بحقيقة الحال .
المسألة الثالثة : قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو { عزير } بالتنوين والباقون بغير التنوين . قال الزجاج : الوجه إثبات التنوين . فقوله : { عزير } مبتدأ وقوله : { ابن الله } خبره ، وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيرا ينصرف سواء كان أعجميا أو عربيا ، وسبب كونه منصرفا أمران : أحدهما : أنه اسم خفيف فينصرف ، وإن كان أعجميا كهود ولوط والثاني : أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر ، وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أنه أعجمي ومعرفة ، فوجب أن لا ينصرف .
الوجه الثاني : أن قوله : { ابن } صفة والخبر محذوف ، والتقدير : عزير ابن الله معبودنا ، وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب «دلائل الإعجاز » ، وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر ، وصار ذلك الوصف مسلما . فلو كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا ، لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم ، وحصل كونه ابنا لله ، ومعلوم أن ذلك كفر ، وهذا الطعن عندي ضعيف . أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر ، توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم . وأما قوله : ويكون ذلك تسليما لذلك الوصف فهذا ممنوع ، لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه ، وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام .
الوجه الثالث : قال الفراء : نون التنوين ساكنة من عزير ، والباء في قوله : { ابن الله } ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين ، فحذف نون التنوين للتخفيف ، وأنشد الفراء :
فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا
واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال : { ذلك قولهم بأفواههم } .
ولقائل أن يقول : إن كل قول إنما يقال بالفم ، فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة .
والجواب من وجوه : الأول : أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه ، والحاصل أنهم قالوا باللسان قولا ، ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر ، لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ، ليس عند العقل منه أثر . ونظيره قوله تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } والثاني : أن الإنسان قد يختار مذهبا إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض ، فإذا صرح به وذكره بلسانه ، فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب ، والنهاية في كونه ذاهبا إليه قائلا به . والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة . والثالث : أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة ، والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب .
ثم قال تعالى : { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية وجوه : الأول : أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله . الثاني : أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم . الثالث : أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم ، فهو غير مستحدث .
المسألة الثانية : المضاهاة : المشابهة . قال الفراء يقال ضاهيته ضهيا ومضاهاة ، هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة . وقال شمر : المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلانا أي يتابعه .
المسألة الثالثة : قرأ عاصم { يضاهئون } بالهمزة وبكسر الهاء ، والباقون بغير همزة وضم الهاء ، يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت . وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصما أحد على الهمزة .
ثم قال تعالى : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجبا من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعا ، قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ! { أنى يؤفكون } الإفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير ، أي قلب وصرف ، ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير . فقوله تعالى : { أنى يؤفكون } معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل ، حتى يجعلوا لله ولدا ! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق ، والله تعالى لا يتعجب من شيء ، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم ، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل .