روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

{ وَنُفِخَ فِى الصور } المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه . وفي حديث أخرجه ابن ماجه . والبزار . وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً أن النافخ اثنان ، ويدل عليه أيضاً أخبار أخر ، منها ما أخرجه أحمد . والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا " وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره إلى إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور . والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة . وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه . وأنكر بعضهم ذلك وقال : هو جمع صورة كما في قراءة قتادة . وزيد بن علي { فِى الصور } بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل . ووقع النفخ في الصور { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } أي ماتوا بسبب ذلك ، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولاً ثم يموتون ، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات . وفي «صحيح مسلم » من حديث طويل فيه ذكر الدجال " ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أُصغي ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس " وقرئ { فَصَعِقَ } بضم الصاد { إِلاَّ مَن شَاء الله } قال السدي : جبريل . وإسرافيل . وميكائيل . وملك الموت عليهم السلام ، وقيل : هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد ، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في «الدر المنثور » ، وقيل : رضوان والحور ومالك والزبانية وروى ذلك عن الضحاك ، وقيل : من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا ؛ قال في البحر : وهذا نظير { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } [ الدخان : 56 ] ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز وجل ، ولا يخفى عليك حاله متصلاً كان الاستثناء أم منقطعاً ، وقيل : هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك ، وقيل غير ذلك .

ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلاً ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف ، وقيل : إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ } أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها { أخرى } أي نفخة أخرى ، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ههنا وجه ، و { أخرى } تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى ، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل ، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف .

وصح في «صحيحي البخاري » . ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعاً ولم يبين فيه ما هذه الأربعون .

وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاماً ، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص قال : ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } قائمون من قبورهم { يُنظَرُونَ } أي نتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، وقيل : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم . وتعقب بأن قولهم عند قيامهم { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] يأباه ظاهراً نوع إباء .

وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم . واعترض بأن قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] ظاهر في خلافه لأن النسل الاسراع في المشي ، وكذا قوله تعالى : { يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] وقرأ زيد بن علي { قِيَاماً } بالنصب على أن جملة { يُنظَرُونَ } خبرهم { وقياما } حال من ضمير { يُنظَرُونَ } للفاصلة ، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك . وفي «البحر » النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو { إِذَا } الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفاً أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياماً ، وإذا نصب { قِيَاماً } على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان { إِذَا } ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديه فبالحضرة هم قياماً ، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ، وإن كانت { إِذَا } حرفاً كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن { يُنظَرُونَ } هو الخبر ويكون عاملاً في الحال انتهى .

ولعمري أن مذهب الكوفيين أقل تكلفاً ، هذا وههنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض . فإنه قد أخرج البخاري . ومسلم . والترمذي . وابن ماجه . والإمام أحمد . وغيرهم عن أبي هريرة قال : «قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : قال الله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى » وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين ، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي ، ويدل كما قال بعض الأجلة : على أنها نفخة البعث .

وقال القاضي عياض : يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثاً وهو اختيار ابن العربي . ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل .

ثم قال : والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا : إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه ، ولذا وقع في «الصحيحين » فأكون أول من يفيق انتهى ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معاً أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعض الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

قوله تعالى :{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض } أي : ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى { إلا من شاء الله } اختلفوا في الذين استثناهم عز وجل ، وقد ذكرناهم في سورة النمل . قال الحسن : إلا من شاء الله يعني الله وحده : { ثم نفخ فيه } أي : في الصور { أخرى } أي : مرة أخرى { فإذا هم قيام ينظرون } من قبورهم ينتظرون أمر الله فيهم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال :أبيت ، قال : ثم ينزل الله من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة " .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( 68 ) } .

ذلك إخبار من الله عن أهوال القيامة وعما يجري فيها من قوارع وقواصم كونية ترتج من أجلها الأرض والسماوات وتتزلزل من شدتها سائر المخاليق والكائنات ويكشف عن ذلك هذه الآيات المريعة العظام التي تأخذ بالقلوب وتقرع المشاعر والوجدان والأبدان . وهو قوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } وهو قرن هائل ، الله أعلم ماهيته وحقيقة تكوينه ومدى حجمه وعظمته . وقد وُكِّل بالنفخ فيه ملك عظيم وهو إسرافيل عليه السلام ؛ فإنه قد انتقم هذا القرن منذ خلق . ومازال ينتظر أن يأمره الله بالنفخ إيذانا بالموت والفناء . وهو قوله : { فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } وهذه هي النفخة الأولى ، وهي نفخة الموت التي تسبق نفخة البعث . وقيل : هذه هي النفخة الثانية التي تأتي عقب نفخة الفزع . وكيفما تكن ، فإن هذه النفخة تموت فيها الأحياء كافة وتضطرب بها نواميس الحياة والكون كله ويتبدل كل شيء تبديلا .

قوله : { إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ } واختلفوا في المستثنين من الصعق عقب النفخ . فقيل : المراد بهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل : المراد بهم الشهداء ؛ فهم أحياء عند ربهم يرزقون . وهم يومئذ لا يفزعون بل هم حول العرش آمنون ساكنون .

قوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } وتلك هي نفخة البعث والنشور والقيام من القبور . فإذا وقعت قام الأموات من أهل الأرض والسماء من قبورهم وأماكنهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم أو ينتظرون ما يفعله الله بهم .