البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

ثم أخذ ينحى على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه ، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضاً بما يناسب من ذلك ، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسموات يوم القيامة ، فقال : { ونفخ في السور } ، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان ؟ قول الجمهور : فنفخة الفزع هي نفخة الصعق ، والصعق هنا الموت ، أي فمات من في السموات ومن في الأرض .

قال ابن عطية : والصور هنا : القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا .

ومن يقول : الصور جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث .

وروي أن بين النفختين أربعين .

انتهى ، ولم يعين .

وقراءة قتادة ، وزيد بن عليّ هنا : في الصور ، بفتح الواو جمع صورة ، يعكر على قول ابن عطية ، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن ، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازاً عن مشارفة الموت وخروج الروح .

وقرىء : فصعق بضم الصاد ، والظاهر أن الاستثناء معناه : { إلا من شاء الله } ، فلم يصعق : أي لم يمت ، والمستثنون : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، أو رضوان خازن الجنة ، والحور ، ومالك ، والزبانية ؛ أو المستثنى الله ، أقوال آخرها للحسن ، وما قبله للضحاك .

وقيل : الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى ، أي يموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته ، لأنهم كانوا قد ماتوا ، وهذا نظير : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } ثم نفخ فيه أخرى ، واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، كما أقيم في اوول ، وأن يكون في موضع رفع مقاماً مقام الفاعل ، كما صرح به في قوله : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة .

} { فإذا هم قيام ينظرون } أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح ، { ينطرون } : أي ينتظرون ما يؤمرون ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم .

والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم .

وقرأ زيد بن علي : قياماً بالنصب على الحال ، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية ، وهي حال لا بد منها ، إذ هي محط الفائدة ، إلا أن يقدر الخبر محذوفاً ، أي فإذا هم مبعوثون ، أي موجودون قياماً .

وأن نصبت قياماً على الحال ، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف .

إن قلنا الخبر محذوف ، وأن لا عامل ، فالعامل هو العامل في الظرف ، فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه ، فتقديره : فبالحضرة هم قياماً ؛ وإن كان ظرف زمان ، كما ذهب إليه الرياشي ، فتقديره : ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه ، هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ؛ وإن كانت إذا حرفاً ، كما زعم الكوفيون ، فلا بد من تقدير الخبر ، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر ، ويكون ينظرون عاملاً في الحال .