الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

قوله تعالى ذكره : { ونفخ في الصور فصعق } – إلى قوله – { وهو أعلم بما يفعلون }[ 65-67 ] أي : ونفخ إسرافيل{[59237]} في القرن فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . وهذه هي النفخة الثانية .

وقيل : الصور جمع صورة{[59238]} .

فالمعنى : ونفخ إٍسرافيل في صورة{[59239]} بني آدم فماتوا . والأول أكثر .

وقوله : { إلا من شاء الله } قال السدي وغيره : هو جبريل وميكائيل وملك الموت{[59240]} .

وكذلك روى أنس{[59241]} عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يموتون في هذه النفخة ( صلوات الله عليهم ){[59242]} ثم يموتون بعد ذلك ، فلا يبقى إلا الله{[59243]} الحي القيوم ، ثم يحيى الله تعالى إسرافيل عليه السلام ويأمره أن ينفخ في القرن لإحياء الخلق بإذن الله عز وجل . والله المميت للخلق بالنفخة التي هي نفخة الصعق وهو المحيي{[59244]} للخلق بالنفخة التي هي نفخة الأحياء " {[59245]} .

قال ابن جبير : عنى{[59246]} بذلك ( شهداءهم ){[59247]} حول العرش ( متقلدو السيوف ){[59248]} .

وقيل : استثناء الشهداء ، إنما هو في [ نفخة الفزع . وهي الأولى{[59249]} .

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ينفخ في الصور ثلاث نفخات{[59250]} ] : النفخة{[59251]} الأولى ، نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله جل ذكره إٍسرافيل{[59252]} بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله " ، فقال أبو هريرة : يا رسول الله{[59253]} ، فمن استثنى حين يقول{[59254]} : { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ؟

قال : " أولئك الشهداء . ( وإن ما يصير ){[59255]} الفزع إلى الأحياء . أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ( ووقاهم الله ){[59256]} فزع ذلك اليوم وأمنهم .

ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل بنفخة الصعق فيقول : نفخة الصعق ، فيصعق أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله فإذا هم خامدون .

ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول : يا رب ، قد مات أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شئت ، فيقول له وهو أعلم : من بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقي حملة عرشك ، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل .

( وينظر الله العرش ، فيقول : يا رب ، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل ! ){[59257]} .

فيقول له جل وعز : اسكت ، إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي{[59258]} .

ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب{[59259]} ، مات جبريل وميكائيل فيقول الله عز وجل وهو أعلم : فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي ( لا تموت وبقي ){[59260]} حملة عرشك وبقيت أنا ، فيقول له : فليمت حملة عرشي ، فيموتون ، ويأمر الله عز وجل العرش فيقبض الصور .

ثم يأتي ملك الموت ، فيقول : يا رب ، قد مات حملة عرشك ، فيقول : ومن بقي ؟ - وهو أعلم – فيقول{[59261]} : بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا ، فيقول{[59262]} : أنت خلق من خلقي خُلِقْتَ{[59263]} لما رأيت فَمتْ ، فيموت " {[59264]} .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني ملك الموت فقال : يا محمد ، اختر : نبيا ملكا ، أو نبيا عبدا . فأومأ إلي جبريل أن تواضع .

قال : فقلت : نبيا عبدا . فأومأ إلي جبريل أن تواضع .

قال : فقلت : نبيا عبدا . فأعطيت خصلتين : جعلت أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ، فأرفع رأسي فأجد ( موسى آخذا ){[59265]} بالعرش فالله أعلم ، بعد الصعقة الأولى أم لا " {[59266]} .

وفي حديث آخر : " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، فأكون أول من يرفع رأسه . فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع / رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل " {[59267]} .

وفي حديث آخر : " فلا أرى أحدا إلا موسى متعلقا بالعرش ، فلا [ أدري ، أممن استثنى ]{[59268]} الله جل ثناؤه ألا تصيبه النفخة أو بعث قبلي " {[59269]} .

وقوله : { ثم نفخ فيه أخرى } ، يعني : نفخة البعث .

{ فإذا هم قيام ينظرون } روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش ، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة " {[59270]} .

عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين النفختين [ أربعون ]{[59271]} ، ثم ينزل الله جل ذكره من السماء ماء فينبتون كما يَنْبُتُ البقل . قال : وليس من الإنسان شيء إلا يبلى ، إلا عَظم واحد وهو عَجْبُ الذّّنَب ومنه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة " {[59272]} .

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتأولون الأربعين أربعين سنة{[59273]} .

وقال الحسن : لا أدري ، أهي أربعون سنة ، أم أربعون شهرا ، أم أربعون ليلة ، أم أربعون ساعة{[59274]} .

قال قتادة : ذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين{[59275]} مَطَر يُقَالُ له مطر الحياة ، حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل ، ثم ينفخ فيه الثالثة{[59276]} فإذا هم قيام ينظرون{[59277]} .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يبعث الله المؤمنين يوم القيامة جُرْداً مُرْداً بنو ثلاثين سنة " {[59278]} .

وقال أبو الزعراء{[59279]} عن عبد الله أنه قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه ، فلا يبقى خلق الله بين السماوات والأرض – إلا من شاء الله – إلا مات . ثم يرسل الله من تحت العرش مَنَيَّا كمني الرجال فتنبت جسمانهم ولحمانهم من ذلك كما تنبت الأرض ، ثم قرأ عبد الله { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا } – إلى قوله – { كذلك النشور }{[59280]} قال : ويكون بين النفختين ما شاء الله ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها .


[59237]:(ح): إسرافيل عليه السلام.
[59238]:انظر: معاني الزجاج 4/362. وقال الفراء في معانيه 2/425: (عن الحسن أو عن قتادة) وذكره.
[59239]:(ح): صور.
[59240]:(ح): (وملك الموت صلوات الله وسلامه)، ولعل كلمة (عليهم) سقطت من (ح). وانظر: جامع البيان 24/20.
[59241]:هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه وعن الخلقاء الراشدين، وروى عنه قتادة والزهري وابن شيرين. توفي سنة 90 هـ. انظر: طبقات ابن سعد 7/17ت93، وتذكرة الحفاظ 1/44 ت 23، والإصابة 1/31 ت 277.
[59242]:ساقط من (ح).
[59243]:ساقط من (ح).
[59244]:(ح): المحيي تبارك وتعالى.
[59245]:قال السيوطي في الدر المنثور 7/250: أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وأبو نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه عن أنس مرفوعا.
[59246]:(ح): أعني.
[59247]:(ح): الشهداء هم.
[59248]:انظر: جامع البيان 24/20.
[59249]:المصدر السابق.
[59250]:في طرة (ع).
[59251]:ساقط من (ح).
[59252]:(ع): سرافيل.
[59253]:(ح): يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[59254]:(ع): يقول.
[59255]:(ح): وإنما يصل.
[59256]:(ح): وقاهم الله تعالى.
[59257]:ساقط من ع.
[59258]:(ح): عرشي فيموتون.
[59259]:(ح): يا رب.
[59260]:(ح): لا يموت وبقيت.
[59261]:(ح): فيقول يا رب.
[59262]:(ح): فيقول عز وجل.
[59263]:(ح): خلقتك.
[59264]:أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان 24/20، وأضاف السيوطي في الدر المنثور 7/250 تخريجه إلى عبد بن حميد وأبي نصر السجزي في الإنابة، وابن مردويه عن أنس مرفوعا. وانظره في المحرر الوجيز 14/104.
[59265]:(ح): موسى صلى الله عليه وسلم أخذ.
[59266]:أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب: تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ح 3 ج 4/1782، وأبو داود في كتاب السنة 34 باب 14 ح 4673، وأحمد 2/231. كلهم عن أبي هريرة بمعناه: وأضاف السيوطي تخريجه إلى عبد بن حميد عن قتادة انظر: الدر المنثور 7/254
[59267]:أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء 60 باب 35 ح 3415، وكتاب الخصومات 44 باب 1 ح 2411، وكتاب التوحيد 97 باب 22 ح 7727، وكتاب الرقاق 81 باب 43 ح 6517 ومسلم في كتاب الفضائل، باب فضائل موسى ح 159 و 160 و 161 ج 4/1844 و 1845، وأبو داود في كتاب السنة 34 باب 14 ح 4671 والترمذي في التفسير (سورة الزمر) ح 9. وقال حديث حسن صحيح ج 12/123، والنسائي في تفسيره 2450 ح 477، وابن ماجه في كتاب الزهد باب 33 ح 4274، وأحمد 2/264، والبغوي في شرح السنة 15/105، وابن جرير في جامع البيان 24/21. كلهم عن أبي هريرة إلا ابن جرير فإنه رواه عن قتادة. ورويت هذه الروايات كلها بالمعنى. وجاء في كتاب التذكرة للقرطبي 167: (واختلف العلماء في المستثنى من هو فقيل: الملائكة، وقيل الأنبياء، وقيل الشهداء، واختاره الحليمي، قال: وهو مروي عن ابن عباس أن الاستثناء لأجل الشهداء، فإن الله تعالى يقول: {أحياء عند ربهم يرزقون}.
[59268]:(ح): أرى ممن استثنا.
[59269]:أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء 60 باب 25 ح 3398 والباب 35 ح 3414 عن أبي سعيد بمعنى الحديث. وأخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان 24/21 عن الحسن مرفوعا.
[59270]:(ح) الصيحة. والحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير: (سورة الأعراف) باب 2 ح 4635، و(سورة الزمر) باب 4 ح 4813، وكتاب الديات باب 32 ح 6917.
[59271]:(ع) و(ح): أربعون سنة. واتفقت كل مصادر تخريج هذا الحديث على ذكر أربعين مبهمة. كما أن تعليق مكي على الحديث يدل على أن القول بأنها (أربعون سنة) خطأ من النساخ. والله أعلم.
[59272]:أخرجه البخاري في كتاب التفسير (سورة الزمر) ح 5935، ومسلم في كتاب الفتن باب ما بين النفختين ح 2955، وأبو داود في كتاب السنة باب 24 ح 4743، والنسائي في الجنائز باب: أرواح المومنين ح 4079، وابن ماجه في الزهد، باب ذكر القبر والبلى ح 4266، وأحمد 2/322، وابن جرير الطبري في جامع البيان 24/21. كلهم عن أبي هريرة بمعناه. والعجب – بفتح العين وضمها وإسكان الجيم – هو العظيم بين الأُلْتَيَنَ الذي في أسفل الصلب عند العجز، يقال إنه أول ما يُخلق وآخر ما يَبلى. انظر: الفائق في غريب الحديث 2/.398، والنهاية في غريب الحديث 3/77 (مادة: عجب).
[59273]:وقال بهذا التأويل أيضا قتادة. انظر: جامع البيان 24/22.
[59274]:انظر: الدر المنثور 7/255.
[59275]:(ع): الأرضين.
[59276]:(ح): الثانية.
[59277]:انظر: جامع البيان 24/22، والدر المنثور 7/255.
[59278]:أخرجه الترمذي في الجنة باب 8 ح 2662 ج 10/11، وأحمد 2/295 و343 و415، والدارمي في الرقاق باب 104 كلهم عن أبي هريرة بمعناه. وأخرجه عن معاذ بن جبل كل من الترمذي في الجنة باب 12 ح 2669 ج 10/14، وأحمد 5/232 و 240 و243، وابن جرير الطبري في جامع البيان 24/22. كلهم بمعنى الحديث أيضا. والأجرد هو من كان الشعر في أماكن من بدنه كالمسربعة والساعدين والساقين، وهو ضد الأشعر وهو الذي على جميع بدنه شعر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/181 (مادة: جرد). أما المرد فقد جاء في اللسان (مادة: مرد) (عن ابن الأعرابي: المرد فقاء الخدين من الشعر...والأمرد الشاب الذي بلغ خروج لحيته وطَرَّ شاربه ولم تَبْدُ لحيته.
[59279]:هو عمر وبن عمرو، أو ابن عامر ابن مالك بن نضلة الجُشمي – بضم الجيم وفتح المعجمة – أبو الزعرانء الكوفي، صفة ابن حجر في التقريب في الطبقة السادسة. أخرج له البحاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. انظر: تقريب التهذيب 2/75 رقم 641.
[59280]:فاطر آية 9.