روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ } في موضع المفعول له بتقدير مضاف ، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول ، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب { أنيبوا } [ الزمر : 54 ] أو { اتبعوا } [ الزمر : 55 ] وأياً ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها ، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال : أي أنذرناكم مخافة أن تقول ، وابن عطية جعل العامل { أنيبوا } ولم يقدر شيئاً من الكراهة والمخافة حيث قال : أي أنيبوا من أجل أن تقول ، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول ؛ وتنكير { تَكَلَّمُ نَفْسٌ } للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى

: ورب بقيع لو هتفت بجوه *** أتاني كريم ينفض الرأس مغضباً

فأنه أراد أفواجاً من الكرام ينصرونه لا كريماً واحداً ، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان ، قيل : ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون ذلك ، وجوز أيضاً أن يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم ، وليس بذاك { *يَا حَسْرَتي } بالألف بدل ياء الإضافة ، والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك . وقرأ ابن كثير في الوقف { يا حسرتاه } بهاء السكت . وقرأ أبو جعفر { يا حسرتي } بياء الإضافة ، وعنه { يا حسرتاي } بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساكنة جمعاً بين العوض والمعوض كذا قيل ، ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذاً استعمالاً وقياساً ، فالأوجه أن يكون ثنى الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحرث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها ، واختار ذلك «صاحب الكشف » ، وجوز أبو الفضل الرازي أيضاً في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة ، والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار ، واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة { نَفْسٌ يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ } أي بسبب تفريطي فعلى تعليلية و { مصدرية } كما في قوله تعالى : { وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] والتفريط التقصير { فِى جَنبِ الله } أي جانبه ، قال الراغب : أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال ، والمراد هنا الجهة مجازاً ، والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عز وجل ؛ وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة

: أما تتقين الله في جنب عاشق *** له كبد حرى عليك تقطع

والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني ، ونير ذلك قول زياد الأعجم

إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج

ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت ، ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم ، وقال الإمام : سمي الجنب جنباً لأنه جانب من جوانب الشيء ، والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى . وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هنا مضاف مقدر ، وليس بذاك . وقول ابن عباس : يريد على ما ضيعت من ثواب الله ، ومقاتل : على ما ضيعت من ذكر الله ؛ ومجاهد . والسدي : على ما فرطت في أمر الله ، والحسن : في طاعة الله ، وسعيد بن جبير : في حق الله بيان لحاصل المعنى ، وقيل : الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازاً لربه ، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله . وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازاً ، وركاكته ظاهرة أيضاً ، وقيل : هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله . وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر ، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها . وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عز وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي .

ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية ، ولا أعول على ما في المواقف ، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وفي حرف عبد الله . وحفصة { فِى ذِكْرِى * الله } { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله ، و { ءانٍ } هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي .

وقال في «البحر » : ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال ، والمقصود من ذلك الاخبار التحسر والتحزن .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

قوله تعالى : { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس } يعني : لئلا تقول نفس كقوله :{ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } ( النحل-15 ) يعني : لئلا تميد بكم . قال المبرد : أي : بادروا واحذروا أن تقول نفس ، وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول . { يا حسرتي } يا ندامتا ، والتحسر الاغتمام على ما فات ، وأراد يا حسرتي على الإضافة . لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة ، فتقول : يا ويلتي ويا ندامتا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة ، وكذلك قرأ أبو جعفر " يا حسرتاي " وقيل : معنى قوله : { يا حسرتا } يا أيتها الحسرة هذا وقتك { على ما فرطت في جنب الله } ، قال الحسن : قصرت في طاعة الله . وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير : في حق الله ، وقيل : ضيعت في ذات الله : وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء الله ، والعرب تسمي الجنب جانباً . { وإن كنت لمن الساخرين } المستهزئين بدين الله ، وكتابه ، ورسوله ، والمؤمنين . قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

من قبل {أن تقول نفس يا حسرتى} يعني يا ندامتا.

{على ما فرطت} يعني ما ضيعت.

{في جنب الله} يعني في ذات الله يعني من ذكر الله.

{وإن كنت لمن الساخرين} يعني لمن المستهزئين بالقرآن في الدنيا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له "أنْ تَقُولَ نَفْسٌ "بمعنى لئلا تقول نفس: "يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّهِ"...

وقولهّ: "يا حَسْرَتا" يعني أن تقول: يا ندما... والألف في قوله يا حَسْرَتا هي كناية المتكلم، وإنما أريد: يا حسرتي، ولكن العرب تحوّل الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا، فتقول: يا ويلتا، ويا ندما، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء... وقوله: "على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ" يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله...

وقوله: "وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ" يقول: وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ذلك صلة ما تقدم من قوله: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} {واتّبِعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل} أن يقول ما ذكر في وقت لا ينفعه ذلك القول، ولا يغنيه من عذاب الله، ولا يدفعه.

{على ما فرّطت في جنب الله} قال بعضهم: في ذات الله.

ولسنا نحتاج إلى تفسير قول ذلك الرجل الذي كان منه حتى قال ذلك، وهو تضييع توحيد الله أو تضييع حدّ الله، أو كان منه من تكذيب البعث.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} كراهة أن تقول.

فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير...

قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه، والمعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك...

{وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{في جنب الله} معناه: في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته، أي في تضييع شريعته والإيمان به.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب، بين تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات؛ فالأول: قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله، عبر بقوله: {نفس} أي عند وقوع العذاب لها، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد؛ لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد.

{يا حسرتى}...،وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم، وأدل على المراد وأعظم، فقال: {على ما فرطت} أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه، وتعذر انضمامه والتئامه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{من الساخرين} أشد مبالغةً في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال: وإن كنتُ لَساخرة، كما تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى: {قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين} في سورة [البقرة: 67].

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله، وأنْ تسلمَ له في أحكامه، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب.

كلمة {يٰحَسْرَتَا} [الزمر: 56] هذا أسلوب نداء، فأيُّ شيء ينادي العبد؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول: يا حسرتي احضري تعالَيْ، فهذا أوانك، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق.

ومعنى {عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته، والتفريط: هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض...

إذن: أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما: {وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ..} [الزمر: 54]

{وَاتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ..} [الزمر: 55] كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب {يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ..} [الزمر: 56] فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر، ولا يرضى له ذلك، فحين يقول لنا: لا تقنطوا من رحمة الله، وأنيبوا، وأسلموا، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة.

والحسرة: أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر.

وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] يعني: الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله، فالذنب مُضَاعف، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29-36]...