البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

{ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كانت لمن الساخرين ، } .

روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور .

فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال : { ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله } ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل الله خبره .

{ أن تقول } : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول .

وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى :

ورب نفيع لو هتفت لنحوه *** أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا

يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم .

قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول .

وقرأ الجمهور : يا حسرتا ، بإبدال ياء المتكلم ألفاً ، وأبو جعفر : يا حسرتا ، بياء الإضافة ، وعنه : يا حسرتي ، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو سانة .

وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه ( كتاب اللوامح ) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهباً ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب . انتهى .

وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه ، بهاء السكت .

قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري .

والجنب : الجانب ، ومستحيل على الله الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز .

قال مجاهد ، والسدي : في أمر الله .

وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به .

وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر :

أفي جنب تكنى قطعتني ملامة *** سليمى لقد كانت ملامتها ثناء

وقال الراجز :

الناس جنب والأمير جنب . . .

ويقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ؛ وفلان لين الجنب والجانب .

ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه .

قال سابق البربري :

أما تتقين الله في جنب عاشق *** له كبد حرى عليك تقطع

وهذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه .

ألا ترى إلى قوله :

إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك .

وما في ما فرطت مصدرية ، أي على تفريطي في طاعة الله .

{ وإن كنت من الساخرين } ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها .

وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . انتهى .

ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال .