اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون ؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام :

فالأول : ( قوله : أَنْ تَقُولَ ) {[47582]} مفعول من أجله فقدره الزمخشري : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ{[47583]} ، ( وابن{[47584]} عطية : أنيبوا من أجل أن تقول{[47585]} ، وأبو البقاء{[47586]} والحَوْفيّ{[47587]} أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول ) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل{[47588]} مع وجود «أَنِيبُوا » . وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى :

4304- وَرُبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ . . . أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا{[47589]}

يريد أتاني ( كرام{[47590]} كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود ، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس ) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم .

قوله : { يا حسرتا } العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة ، وعن ابن كثير : يَا حَسْرَتَاه بهاء{[47591]} السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل{[47592]} ، وعنه أيضاً : يَا حَسْرتَايَ بالألف والياء{[47593]} . وفيها وجهان :

أحدهما : الجمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْهُ{[47594]} .

والثاني : أنه تثنية «حَسْرَة » مضافة لياء المتكلم ، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال : يَا حَسْرَتَيَّ- بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ : بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو : رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ{[47595]} ، وقيل : الألف بدل من الياء والياء ( بعدها ){[47596]} مزيدة .

وقيل : الألف مزيدة بين المتضايفين{[47597]} وكلاهما ضعيف .

قوله : «عَلَى مَا فَرَّطت » ما مصدرية أي على تَفْريطي ، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله{[47598]} ، وقيل : في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال : هُوَ في جَنْبِ فُلاَنٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ{[47599]} قال :

4305- النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ{[47600]} . . .

وقال آخر :

4306- أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلاَمةً . . . سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلاَمَتُهَا ثِنَى{[47601]}

ثم اتسع فيه فقيل : فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه ، قَالَ :

4307- أَمَا تَتَّقِينَ اللًَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ . . . لَهُ كَبْدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطّعُ{[47602]}

( فصل )

المعنى : أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول{[47603]} : نفس كقوله : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] و [ لقمان : 10 ] أي لئَلاَّ تَمِيدَ بكم ، قال المبرد : أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس{[47604]} ، قال الزجاج : خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتنا{[47605]} ، والتحسر الاغْتمَام على ما فات{[47606]} ، وأراد : يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول : ياَ وَيْلَتَا ، ويَا نَدَامَتَا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة{[47607]} كقراءة أبي جعفر المتقدمة ، وقيل : معنى قوله : { ياحسرتا } أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ{[47608]} . { على ما فرطت في جنب الله } . قال الحسن : قَصَّرْتُ في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير في حق الله ، وقيل : قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله ، والعرب تسمي الجنب{[47609]} جانبا .

ثم قال : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } المستهزئين بدين الله ، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع{[47610]} طاعة الله حتى جعل السخر{[47611]} بأهل طاعته ، ومحل «وَإنْ كُنْتُ » النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي .


[47582]:ساقط من ب.
[47583]:الكشاف 3/404.
[47584]:ما بين القوسين كله ساقط من ب.
[47585]:البحر المحيط 7/435.
[47586]:التبيان 1112.
[47587]:نقله صاحب البحر في المرجع السابق.
[47588]:في ب العالم خطأ وتحريف وانظر: الدر المصون 4/657.
[47589]:البيت له من الطويل والبقيع: الأرض المتسعة، وبها أصول شجر وجوه: أي داخله، وقد شرحه المؤلف أعلى. وشاهده "كريم" منكرا حيث لا يقصد كريما بعينه وإنما يقصد كثيرين كما بينه أعلى. وانظر : الكشاف 3/404 والبحر 7/435 والقرطبي 15/270 وديوان الأعشى 8.
[47590]:ما بين القوسين كله ساقط من "أ" الأصل وتكملة من ب فالتصحيح من ب.
[47591]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 131 والسمين في الدر 4/657، كما ذكر عن عاصم "يا أسفاه" صاحب المختصر أيضا.
[47592]:المرجعين السابقين وانظر أيضا الإتحاف 376، والمحتسب 2/237.
[47593]:المراجع السابقة.
[47594]:قاله أبو حيان في البحر 7/435 وابن جني في المحتسب 2/238 والسمين في الدر 4/657.
[47595]:هذا كلام أبي الفضل الرازي صاحب اللوامح نقله عنه صاحب البحر 7/435 وانظر أيضا الدر المصون 4/658.
[47596]:سقط من "ب". وقد نقل هذا الرأي ابن جني في المحتسب 2/238 ونقله السمين في الدر 4/658.
[47597]:المرجع الأخير السابق.
[47598]:. نقله صاحب الكشاف 3/404 وانظر أيضا الخصائص 3/247.
[47599]:نقله أبو حيان في البحر 7/435 والسمين في الدر 4/658
[47600]:من الرجز ومعناه أن الممدوح في جنب يساوي جنب الآخرين من الخلق كلهم واستشهد بالبيت على أن معنى الجنب الجهة والناحية. وانظر اللسان: "جنب" 692 والبحر 7/435 والقرطبي 15/272 و 271 وقبله: قسم مجهودا لذاك القلب
[47601]:هذا البيت من الطويل ويعزى لكعب بن زهير كما قال ابن منظور في اللسان. وشاهده "جنب بكر" حيث استعمل بمعنى الجهة والناحية. وانظر: البحر المحيط 7/435 والدر المصون 4/658 واللسان: "ثنى" وملحقات ديوان أوس 141 وغريب الحديث لابن سلام 1/98 وديوان كعب 128.
[47602]:البيت مختلف في نسبته ، فقد نسبه القرطبي في الجامع 15/271 إلى كثير، ونسبه الزمخشري في الكشاف وأبو حيان في البحر إلى سابق البربري. وشاهده أن الجنب هنا بمعنى الحق والبيت كما هو واضح من الطويل كسابقه، ويروى: في جنب وامق بدل من عاشق. وانظر: ديوان كثير 73 والكشاف 3/404 وشرح شواهد الكشاف 451 ومجمع البيان 7/786 والبحر المحيط 7/435.
[47603]:هذا التقدير للكوفيين لأن تقول أو لئلا تقول وعند البصريين حذرا أن تقول انظر: القرطبي 15/270.
[47604]:البغوي في معالم التنزيل 6/72.
[47605]:قاله في معاني القرآن وإعرابه 4/359.
[47606]:البغوي السابق.
[47607]:السيوطي في الهمع 1/181.
[47608]:نقله البغوي في المرجع السابق.
[47609]:السابق وانظر أيضا لباب التأويل للخازن 6/82.
[47610]:في ب يضيع.
[47611]:في ب يسخر.