{ وَنُفِخَ فِى الصور } المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه . وفي حديث أخرجه ابن ماجه . والبزار . وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً أن النافخ اثنان ، ويدل عليه أيضاً أخبار أخر ، منها ما أخرجه أحمد . والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا " وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره إلى إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور . والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة . وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه . وأنكر بعضهم ذلك وقال : هو جمع صورة كما في قراءة قتادة . وزيد بن علي { فِى الصور } بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل . ووقع النفخ في الصور { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } أي ماتوا بسبب ذلك ، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولاً ثم يموتون ، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات . وفي «صحيح مسلم » من حديث طويل فيه ذكر الدجال " ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أُصغي ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس " وقرئ { فَصَعِقَ } بضم الصاد { إِلاَّ مَن شَاء الله } قال السدي : جبريل . وإسرافيل . وميكائيل . وملك الموت عليهم السلام ، وقيل : هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد ، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في «الدر المنثور » ، وقيل : رضوان والحور ومالك والزبانية وروى ذلك عن الضحاك ، وقيل : من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا ؛ قال في البحر : وهذا نظير { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } [ الدخان : 56 ] ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز وجل ، ولا يخفى عليك حاله متصلاً كان الاستثناء أم منقطعاً ، وقيل : هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك ، وقيل غير ذلك .
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلاً ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف ، وقيل : إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ } أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها { أخرى } أي نفخة أخرى ، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ههنا وجه ، و { أخرى } تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى ، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل ، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف .
وصح في «صحيحي البخاري » . ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعاً ولم يبين فيه ما هذه الأربعون .
وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاماً ، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص قال : ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } قائمون من قبورهم { يُنظَرُونَ } أي نتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، وقيل : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم . وتعقب بأن قولهم عند قيامهم { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] يأباه ظاهراً نوع إباء .
وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم . واعترض بأن قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] ظاهر في خلافه لأن النسل الاسراع في المشي ، وكذا قوله تعالى : { يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] وقرأ زيد بن علي { قِيَاماً } بالنصب على أن جملة { يُنظَرُونَ } خبرهم { وقياما } حال من ضمير { يُنظَرُونَ } للفاصلة ، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك . وفي «البحر » النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو { إِذَا } الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفاً أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياماً ، وإذا نصب { قِيَاماً } على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان { إِذَا } ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديه فبالحضرة هم قياماً ، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ، وإن كانت { إِذَا } حرفاً كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن { يُنظَرُونَ } هو الخبر ويكون عاملاً في الحال انتهى .
ولعمري أن مذهب الكوفيين أقل تكلفاً ، هذا وههنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض . فإنه قد أخرج البخاري . ومسلم . والترمذي . وابن ماجه . والإمام أحمد . وغيرهم عن أبي هريرة قال : «قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : قال الله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى » وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين ، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي ، ويدل كما قال بعض الأجلة : على أنها نفخة البعث .
وقال القاضي عياض : يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثاً وهو اختيار ابن العربي . ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل .
ثم قال : والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا : إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه ، ولذا وقع في «الصحيحين » فأكون أول من يفيق انتهى ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معاً أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعض الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر .
قوله تعالى :{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض } أي : ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى { إلا من شاء الله } اختلفوا في الذين استثناهم عز وجل ، وقد ذكرناهم في سورة النمل . قال الحسن : إلا من شاء الله يعني الله وحده : { ثم نفخ فيه } أي : في الصور { أخرى } أي : مرة أخرى { فإذا هم قيام ينظرون } من قبورهم ينتظرون أمر الله فيهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال :أبيت ، قال : ثم ينزل الله من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونفخ في الصور} وهو القرن وذلك أن إسرافيل وهو واضع فاه على القرن يشبه البوق... يؤمر فينفخ في القرن، فإذا نفخ فيه: {فصعق} يعني فمات.
{من في السماوات ومن في الأرض} من شدة الصوت والفزع من فيها من الحيوان، ثم استثنى {إلا من شاء الله}...
{ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام} على أرجلهم.
{ينظرون} إلى البعث الذي كذبوا به، فذلك قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين:6].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونفخ إسرافيل في القرن...
وقوله "فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ "يقول: مات، وذلك في النفخة الأولى... وقوله: "إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ"؛ اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بالاستثناء في هذه الآية؛
فقال بعضهم عني به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت... حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا الفضل بن عيسى، عن عمه يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ" فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: «جبرائيل وميكائيلَ، ومَلكَ المَوْتِ، فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ قال: يَقُولُ: سُبْحانَكَ تَبَارَكْتَ رَبّي ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْريلُ وميكائيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ قالَ: يَقُولُ يا مَلَك المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائِيلَ قالَ: فَيَقَعُ كالطّوْدِ العَظِيم، قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ فَيَقُول: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْريلُ وَمَلَكُ المَوْتِ، قال: فَيَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مُتْ، قالَ: فَيَمُوتُ قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا جِبرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ قالَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلال والإكْرامِ، بَقِي جِبْرِيلُ، وَهُوَ مِنَ اللّهِ بالمَكانِ الّذِي هُوَ بِهِ قال: فَيَقُولُ يا جِبْريلُ لا بُدّ مِنْ مَوْتَةٍ قالَ: فَيَقَعُ ساجِدا يَخْفِقُ بِجَناحَيْهِ يَقُولُ: سُبْحانَكَ رَبّي تَبَارَكْتَ وَتَعالَيْتَ يا ذَا الجَلالِ والإكْرامِ، أنْتَ الباقي وجِبْريلُ المَيّت الفاني: قال: ويأْخُذُ رُوحَهُ في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها، قالَ: فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكائِيلَ كَفَضْلِ الطّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظّرْبِ مِنَ الظّرابِ».
وقال آخرون: عنى بذلك الشهداء...
وقال آخرون: عنى بالاستثناء في الفزع: الشهداء، وفي الصعق: جبريل، وملك الموت، وحملة العرش... حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُنْفَخُ في الصّور ثَلاث نَفَخاتٍ: الأُولى: نَفْخَة الفَزَعِ، والثّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ، والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ تَبارَكَ وَتَعالى يأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَتَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ» قال أبو هريرة: يا رسولَ الله، فمن استثنىَ حين يقول: ففَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال: «أُولَئِكَ الشّهَداءُ، وإنّما يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ، أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمّنَهُمُ، ثُمّ يَأْمُرُ اللّهُ إسْرافِيلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فإذا هُمْ خامِدُونَ، ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبّارِ تَبارَكَ وَتَعالى فَيَقُولُ: يا رَبّ قَدْ ماتَ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلُ فَيَقُولُ اللّهُ لَهُ: اسْكتْ إنّي كتَبْتُ المَوْتَ على مَنْ كانَ تَحْتَ عَرْشِي ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يا رَب قَدْ ماتَ جِبْرِيلُ وَمِيكائِيلُ فَيَقولُ اللّهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقولُ: بَقِيتَ أنتَ الحيّ الّذِي لا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أنا، فَيَقُولُ اللّهُ: فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ، فَيَمُوتُونَ وَيأْمُرُ اللّهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصّورَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبّ قَدْ ماتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ: مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ، فَيَقُولُ: بَقِيت أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ وَبَقِيتُ أنا، قال: فَيَقُولُ اللّهُ: أنْتَ مِنْ خَلقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رأيْتُ، فَمُتْ لا تَحْيَ، فَيَمُوتُ».
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصحة، لأن الصعقة في هذا الموضع: الموت. والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك.
وإنما عنى جلّ ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع، الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة الصعق، لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل وذلك أنه لو جاز أن يكون المراد بذلك من قد هلك، وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق، وجب أن يكون المراد بذلك من قد هلك، فذاق الموت من قبل ذلك، لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت لا يجدّد له موت آخر في تلك الحال. وقال آخرون في ذلك ما: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت؟ قال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته. قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله قال: «أتانِي مَلَكٌ فَقالَ: يا مُحَمّدُ اخْتَرْ نَبِيا مَلِكا، أوْ نَبيّا عَبْدا فأَوْمأَ إليّ أنْ تَوَاضَعْ، قال: نَبِيّا عَبْدا، قال: فأُعْطيتُ خَصْلَتَيْنِ: أنْ جُعِلْتُ أوّلَ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضَ، وأوّلَ شافِعٍ، فَأرْفَعُ رأسِي فأجِدُ مُوسَى آخِذا بالعَرْشِ، فاللّهُ أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصّعْقَةِ الأُولى أمْ لا؟»...
وقوله: "ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ" يقول تعالى ذكره: ثم نُفخ في الصور نفخة أخرى والهاء التي في «فيه» من ذكر الصور... عن السديّ "ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى" قال: في الصور، وهي نفخة البعث...
وقوله: "فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" يقول: فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تُحْشَرُون، والنفختان متجانستان ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح؛ وفي الأخرى حياة النفوس، لِيُعْلَمَ أن النفخةَ لا تعمل شيئاً لعينها، وإنما الجبَّارُ بقدرته يخلق ما يشاء...
اعلم أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره، أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضا على كمال قدرته وعظمته، وذلك شرح مقدمات يوم القيامة؛ لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم.
القول الرابع: أنهم الحور العين وسكان العرش والكرسي.
{ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وفيه أبحاث:
الأول: لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى؛ لأن لفظ {ثم} يفيد التراخي، قال الحسن رحمه الله: القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى.
الثاني: قوله {أخرى} تقدير الكلام: ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة.
الثالث: قوله {فإذا هم قيام} يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ؛ لأن الفاء في قوله {فإذا هم} تدل على التعقيب...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{قيام ينظرون} قيل: إنه من النظر، وقيل: من الانتظار أي: ينتظرون ما يفعل بهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول: {ونفخ في الصور} أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها، العالي عليها في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث، التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس، والمراد بها -والله أعلم- إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر؛ ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي، ولا تطيقه الأحلام والنهى، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير، فإن تلك أثرت الموت، وهذه أثرت الغشي؛ لأنه لا موت بعد البعث، وهي الثالثة من النفخات.
{فصعق} أي مغشياً عليه {من في السماوات}.
ولما كان المقام التهويل، وكان التصريح أهول، أعاد الفاعل بلفظه فقال: {ومن في الأرض}.
ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار استثناه فقال: {إلا من شاء الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم، وصعقاً لقوم دون قوم.
{ثم نفخ فيه أخرى} أي نفخة ثانية من هذه، وهي رابعة من النفخة المميتة، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله: {فإذا هم قيام} أي قائمون كلهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذٍ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة، فالجملة من عطف القصة على القصة، ومناسبة العطف ظاهرة، وعبر بالماضي في قوله: {ونُفِخَ} وقوله: فَصَعِقَ مجازاً؛ لأنه محقق الوقوع مثل قوله: {أتى أمر اللَّه} [النحل: 1]، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير (قد) أي والحال قد نفخ في الصور، فتكون صيغة الماضي في فعلي (نفخ وصَعق) مستعملة في حقيقتها.
وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض. وتكرر ذكره في القرآن والسنة...
والصور: بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به: للصلاة الجامعة، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام. والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائِهم وأَمواتِهم، وهو علامة لأمر التكوين، فالأحياء يصعقون فيموتون (كما يموت المفزوع) بالنفخة الأولى، والأموات يصعقون اضطراباً تدبّ بسببه فيهم الحياة، فيكونون مستعدين لقبول الحياة، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بَلي من أجسادهم التي بليت، أو حلّتْ الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلَى فيه جميع الأجساد...
{أُخْرى} صفة لمحذوف، وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل (87) {ويوم ينفخ (1) في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه وكل أتوه داخرين} لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة (13، 15) {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة} وذكرت هنا نفختان. وضمير {هُم} عائد على {من في السموات ومن في الأرض} فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب {إلا مَن شاء الله} وهم الذين صعقوا صعق ممات وصَعْق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة...
وجملة {يَنظُرُونَ} حال. والنظرُ: الإِبصار، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حَيُوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} في سورة الصافات (19)، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث.