روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ} (13)

{ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير ل { ما تركبون } [ الزخرف : 12 ] وأفرد رعاية للفظ ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه ، والظاهر أن لام { لِتَسْتَوُواْ } لام كي ، وقال الحوفي : من أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا ، وقال ابن عطية : هي لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وقد اختلف في أمره فقيل : إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو { فَبِذَلِكَ فلتفرحوا } [ يونس : 58 ] أو شعر نحو قوله :

لتقم أنت يابن خير قريش *** وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروى بالمعنى ، وقال الزجاج : إنها لغة جيدة ، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين .

{ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري ، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكراً باللسان مع شعور من القلب ، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وءن كان ذلك التقرير سديداً أيضاً ، ومنه يظهر إيثاره علي ثم تحمدوا إذا استويتم ، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى .

ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه : { وَتَقُولُواْ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقاداً لنا متعجبين من ذلك ، وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب ، والكلام وإن كان إخباراً على ما سمعت أولاً يشعر بالطلب .

أخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن المنذر عن أبي مجلز قال : رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلاً ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا فقال : أو بذلك أمرت ؟ فقال : فكيف أقول ؟ قال : الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في أخير أمة أخرجت للناس ثم تقول : { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } إلى { مُقْرِنِينَ } وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير ، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام .

وأخرج أحمد . وأبو داود . والترمذي وصححه . والنسائي . وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثاً والله أكبر ثلاثاً سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم شحك فقيل له : مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت : يا رسول الله مم ضحكت ؟ فقال : يتعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ، وفي حديث أخرجه مسلم .

والترمذي . وأبو داود . والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثاً ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون ، وفي حديث أخرجه أحمد . وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم ، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك ، وذكر بعضهم أنه يقال : إذا ركبت السفينة { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } إلى { رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] ويقال : عند النزول منها «اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مطيقين ، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب :

لقد علم القبائل ما عقيل *** لنا في النائبات بمقرنينا

وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه ، قال ابن هرمة :

وأقرنت ما حملتني ولقلما *** يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر

وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة ، والقرن الحبل الذي يقرن به ، قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صولة البزل القنا عيس

وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا .

أخرج عبد بن حميد . وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال : أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه ، وقرىء { مُقْرِنِينَ } بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ} (13)

قوله تعالى : { لتستووا على ظهوره } ذكر الكناية لأنه ردها إلى ما . { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } بتسخير المراكب في البر والبحر ، { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا } ذلل لنا هذا ، { وما كنا له مقرنين } مطيقين ، وقيل : ضابطين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ} (13)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لتستووا} يعني لكي تستووا.

{على ظهوره} يعني ذكورا وإناثا من الإبل.

{ثم} قال: لكي {تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه}، على ظهورها، يعني يقولون: الحمد لله.

{و} لكي {وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا}، يعني ذلل لنا هذا المركب.

{وما كنا له مقرنين}، يعني مطيقين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: كي تستووا على ظهور ما تركبون...

قوله:"ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ" يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرّ والبحر "إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ "فتعظموه وتمجدوه، وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام، مما يصفه به المشركون، وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام "وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ"...

وقوله: "وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ" وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين، من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته، وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر النعمة الناشئة عن مطلق الإيجاد، ذكر بنعمة الراحة فيه فقال معللاً: {لتستووا} أي تكونوا مع الاعتدال والاستقرار والتمكن والراحة {على ظهوره} أي ظهور كل من ذلك المجعول، فالضمير عائد على ما جمع الظهر نظراً للمعنى تكثيراً للنعمة، وأفرد الضمير رداً على اللفظ دلالة على كمال القدرة بعظيم التصريف براً وبحراً أو تنبيهاً بالتذكير على قوة المركوب لأن الذكر أقوى من الأنثى.

ولما أتم النعمة بخلق كل ما تدعو إليه الحاجة، وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن يكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظيم قدر النعمة وعلو غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي: {ثم تذكروا} أي بقلوبكم، وصرف القول إلى وصف التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال: {نعمة ربكم} الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونه من غيرها.

ولما كان الاعتدال عليه أمراً خارقاً للعادة بدليل ما لا يركب من الحيوانات في البر والجوامد في البحر وإن كان قد أسقط العجب فيه كثرة إلفه ذكر به فقال: {إذا استويتم عليه} ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال: {وتقولوا} أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان.

ولما كان الاستواء على ذلك مقتضياً لتذكر النقص بالاحتياج إليها في بلوغ ما ركبت لأجله وفي الثبات عليها وخوف العطب منها وتذكر أن من لا يزال يحسن إلى أهل العجز الذين هم في قبضته ابتداء وانتهاء من غير شيء يرجوه منهم لا يكون إلا بعيداً من صفات الدناءة وأن استواءه على عرشه ليس كهذا الاستواء المقارن لهذه النقائص وأنه ليس كمثله شيء، كان المقام للتنزيه فقال:

{سبحان الذي سخر} أي بعلمه الكامل وقدرته التامة.

{لنا هذا} أي الذي ركبناه سفينة كان أو دابة {وما} أي والحال أنا ما.

{كنا} ولما كان كل من المركوبين في الواقع أقوى من الركاب، جعل عدم إطاقتهم له وقدرتهم عليه كأنه خاص به، فقال مقدماً للجار دلالة على ذلك: {له مقرنين} أي ما كان في جبلتنا إطاقة أن يكون قرناً له وحده لخروج قوته من بين ما نعالجه ونعانيه عن طاقتنا بكل اعتبار ولا مكافئين في القوة غالبين ضابطين، مطيقين من أقرن الأمر: أطاقه وقوي عليه فصار بحيث يقرنه بما شاء.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات. ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة:

(لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين).. فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والاستواء: الاعتِلاء. والظهورُ: جمع ظَهر، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك، فهذا أيضاً من التغليب. والمعنى: على ظهوره وفي بطونه. فضمير {ظهوره} عائد إلى {ما} الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ. ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرفِ {على} بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى: {فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28].

وقد جُعل قوله: {لتستووا على ظهوره} توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله: {ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه} أي حينئذٍ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها. وأجدر بعدم الذهول عنها، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان.

وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام. وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة.

وعطف على {تذكروا نعمة ربّكم} قوله: {وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا}، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة.

وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي. واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا. واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة.

والتسخير: التذييل والتطويع. وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك، ورصد مهابّ الرياح، ووضع القلوع والمجاذيف، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية. ولهذا عقب بقوله: {وما كنّا له مُقْرِنين} أي مطيقين، أي بمجرد القوة الجسدية، أي لولا التسخير المذكور، فجملة {وما كُنَّا له مقرنين} في موضع الحال من ضمير {لنا} أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة.

والمُقرن: المطيق...

وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث.

وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله.