{ فَلِذَلِكَ } أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعباً { فادع } إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة { واستقم كَمَا أُمِرْتَ } أي أثبت على الدعاء كما أوحى إليك ، وقيل : الإشارة إلى قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم } [ الشورى : 13 ] وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع ، وما ذكر أولى لأن قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُواْ } شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت ، ويدل عليه { كبر على المشركين ما تدعوهم أليه } [ الشورى : 13 ] فقوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فادع } الخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر ، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل .
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع ، وقيل : هو الكتاب ، وقيل : هو العلم المذكور في قوله تعالى : { جَاءهُمُ العلم } [ الشورى : 14 ] وقيل : هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك ، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل ، وقيل : على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه ، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضاً كما في قوله :
شع دعوت لما نابني مسوراً *** ونقل ذلك عن الفراء والزجاج ، وأياً ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى ، وقيل : كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين ، وجعل ضمير { تَفَرَّقُواْ } لأخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر .
وقيل : { ضمير } تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] وإنما تفرقوا حسداً له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة ، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر ، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر أن الخطاب في { أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] لأمته صلى الله عليه وسلم . وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال : يرد ذلك قوله تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } [ الشورى : 14 ] فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار إمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديداً للرجز عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الاخلال بذلك المرام انتهى .
وأجيب عن الأول بأن ضمير { بَيْنَهُمْ } لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهو لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور ، وقيل : المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما ، وقيل : المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى ، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين ، وقيل : ضمير { تَفَرَّقُواْ } للمشركين في قوله تعالى : { كَبُرَ عَلَى المشركين } [ الشورى : 13 ] .
حكى في البحر عن ابن عباس أنه قال : وما تفرقوا يعني قريشاً والعلم ممد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي كما قال سبحانه : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } [ فاطر : 42 ] الآية ، وقد يقال عليه : المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { من بعدهم } [ الشورى : 14 ] على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم .
ونقل الطبرسي عن السدى ما يدل على أن المراد من بعد احبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب ، وقيل : ضمير بعدهم للمشركين أيضاً والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] ولا يخفي عليك أنه لا بأس بعود ضمير { تَفَرَّقُواْ } للمشركين لوجود للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق ، وجعل متعلق { استقم } الدعاء لا تخفي مناسبته . وجوز جعله عاماً فيكون استقم أمراً بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام ، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم ، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } أي شيئاً من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس { وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب } أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم ، وتنكير { كِتَابٌ } المبين مؤيد لذلك ، وفي هذا القول تحقيق لحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف القلوب لأهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها { وَأُمِرْتُ لأعدل بَيْنَكُمُ } أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصاً دون شخص وقيل : لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم ، وقيل : بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد ، وقيل : لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعلمه ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف ، وقيل : اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل ، ولا يخلو عن بعد { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب { لَنَا أعمالنا } لا يتخطانا جزاؤها ثواباً كان أو عقاباً { وَلَكُمْ أعمالكم } لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد ، وجاءت الحجة هنا على أصله فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد { الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا } يوم القيامة { وَإِلَيْهِ المصير } فيفصل سبحانه بيننا وبينكم ، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية السيف ، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلذلك فادع} يعني إلى التوحيد، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ادع أهل الكتاب إلى معرفة ربك، إلى هذا التوحيد.
{واستقم}: وامض، {كما أمرت} بالتوحيد، كقوله في الزمر: {فاعبد الله} [الزمر:2]
{ولا تتبع أهواءهم} في ترك الدعاء، وذلك حين دعاه أهل الكتاب إلى دينهم.
{وقل} لأهل الكتاب: {آمنت}: صدقت، {بما أنزل الله من كتاب} يعني القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور.
{وأمرت لأعدل بينكم} بين أهل الكتاب في القول، يقول: أعدل بما آتاني الله في كتابه، والعدل أنه دعاهم إلى دينه.
{الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكن أعمالكم}: لنا ديننا الذي نحن عليه، ولكم دينكم الذي أنتم عليه.
{لا حجة}: لا خصومة، {بيننا وبينكم} في الدين، يعني أهل الكتاب، نسختها آية القتال في براءة.
{الله يجمع بيننا} في الآخرة، فيجازينا بأعمالنا، ويجازيكم، {وإليه المصير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله، واستقم على العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة...
وقوله:"وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ" يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه.
يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض.
وقوله: "وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ "يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه...
وقوله: "اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" يقول: الله مالكنا ومالكم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله: "لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ" يقول: لا خصومة بيننا وبينكم... وقوله: "اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا" يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه. "وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختُلف في قوله: {فلذلك فادع واستقم} قيل: فلذلك وعد أن ينزل عليك، فادعُ. وقال بعضهم: أي وإلى ذلك الكتاب فادع.
{واستقِم كما أمرت} دليل على أنه كان قد سبق له الأمر بالاستقامة، ثم يحتمل ما ذكر من الاستقامة التي أمر بها، هو تبليغ الرسالة إليهم.
ويحتمل الاستقامة في التوحيد له ودعاء الخلق إليه.
{لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على المنابذة كقوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] وإنما يُقال هذا بعد ما تبلغ الحُجج غايتها، والحِجاج نهايته، فلم ينجع ذلك فيهم، وأيِس منهم.
والثاني: إنا لا نُؤاخَذ بأعمالكم، ولا أنتم تُؤاخَذون بأعمالنا [كقوله تعالى] {فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم} [النور: 54] ونحوه.
{لا حجة بيننا وبينكم} يحتمل {لا حجّة بيننا وبينكم} أي لا حجّة بقيت في ما ادّعيتُ ودعوتُكم إليه إلا وقد أقمتُها عليكم، أي لم تبق حجة في ذلك إلا وقد أقمتُها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(لا حجة بيننا وبينكم) قيل: معناه إن الحجة لنا عليكم لظهورها، وليست بيننا بالاشتباه والالتباس.
وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة، لا على طريق الشبهة، وليس ذلك على جهة تحريم إقامة الحجة؛ لأنه لم يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها الحق من الباطل؛ فإذا صار الإنسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين أهل الحق.
(الله يجمع بيننا يوم القيامة واليه المصير) أي المرجع حيث لا يملك أحد الحكم فيه ولا الأمر والنهي غيره، فيحكم بيننا بالحق، وفي ذلك غاية التهديد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
خوطب عليه السلام بأمر الاستقامة، وقد كان مستقيماً، بمعنى: دم على استقامتك، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112]؛ لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام: «شيبتني هود وأخواتها»، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: لأن فيها {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ولن تحصوا...
{وأمرت لأعدل بينكم} أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله...
وأعلم أنه ليس المراد من قوله {لا حجة بيننا وبينكم} تحريم ما يجري مجرى محاجتهم، ويدل عليه وجوه:
(الأول) أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض.
(والثاني) أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف...
(الثالث) أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تركوا تصديقه بغيا وعنادا، فبين تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم؛ لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة البتة، ومما يقوي قولنا: أنه لا يجوز تحريم المحاجة، قوله {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه، قال: {واستقم} {ولا تتبع} أي تعمداً {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه...
{وأمرت} أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ...
{لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا.
{ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك...
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.
ولم يقل:"ولا تتبع دينهم"؛ لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء. القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت. تدعو إلى الله على بصيرة. وتستقيم على أمر الله دون انحراف. وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك. القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق. والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: (وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب).. ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل. (وأمرت لأعدل بينكم).. فهي قيادة ذات سلطان، تعلن العدل في الأرض بين الجميع. [هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها. ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة]. وتعلن الربوبية الواحدة: (الله ربنا وربكم).. وتعلن فردية التبعة: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).. وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل: (لا حجة بيننا وبينكم).. وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير: (الله يجمع بيننا وإليه المصير).. وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق. فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر. وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض. وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستقامة: الاعتدال، والسين والتاء فيها للمبالغة مثل: أجاب واستجاب. والمراد هنا الاعتدال المجازي وهو اعتدال الأمور النفسانية من التقوى ومكارم الأخلاق، وإنّما أُمر بالاستقامة، أي الدوام عليها، للإشارة إلى أن كمال الدعوة إلى الحق لا يحصل إلا إذا كان الداعي مستقيماً في نفسه...
وضمير {أهواءهم} للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب، والمقصود: نهي المسلمين عن ذلك من باب {لَئن أشركتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر: 65] ألا ترى إلى قوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} في سورة هود (112). ويجوز أن يكون معنى {ولاَ تتبع أهواءَهم} لا تجارِهم في معاملتهم، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رُسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدَّلوه منها فأعْلِن بأنك مؤمن بكتبهم، ولذلك عطف على قوله: {ولا تتبع أهواءهم}...
وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى الله عليه وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماءَ وقُريظة والنضِير وبني قَيْنُقَاع، وقد عَدَل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب...
وجملة {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} دعوةُ إنصاف، أي أن الله يجازي كُلاً بعمله...
. {لا حجة بيننا وبينكم}... ونفيُ الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم؛ فيكون المعنى الامساكُ عن مجادلتهم؛ لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه، وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوَى.
ويجوز أن يكون المنفي جنسَ الحجة المفيدةِ، بمعونة القرينة مثل: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. والمعنى: أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث... وأيّاً مّا كان فليس هذا النفي مستعملاً في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعدَ هذه وحاجّهم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم...
وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخاً لهذه الآية
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة، أو إلى أن الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأُخرى مطابقة للقانون الإلهي. وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها: (ولا تتبع أهواءهم)؛ لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق، فعليك القضاء على هذه الأهواء، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد. وبما أن لكل دعوة نقطة بداية، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب). فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية، اعترف بها جميعاً، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها. فأنا لستُ مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الأخرين، فاليهود يلغون المسيحيين، والمسيحيون يلغون اليهود، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضاً يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة. وبما أن رعاية أصل العدالة ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول: (وأمرت لأعدل بينكم)، سواء في القضاء والحكم، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأُخرى.
وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة، حيث تبداً من أصل الدعوة، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها يعني الاستقامة ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق كعبادة الأهواء ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس، وأخيراً الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة. بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات، حيث تقول: (الله ربّنا وربّكم) وكل واحد مسؤول عن أعماله (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم). (لا حجّة بيننا وبينكم) وليس بيننا نزاع وخصومة، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم. وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والاحتجاج، لأن الحق واضح، إضافة إلى ذلك فإننا جميعاً سوف نجتمع في مكان واحد: (الله يجمع بيننا). والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: (وإليه المصير). وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد، والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسؤولون جميعاً حيال أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلاّ بالإيمان والعمل الصالح...