{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ( 15 ) } [ 15 ] .
لا حجة بيننا وبينكم : ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة .
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
بأن يدعو إلى ما أمر به ويثبت عليه بعد أن بين الله له في الآية السابقة أن الخلاف والنزاع والشك الذي وقع فيه أهل الأديان والكتب المنزلة ليس من طبيعة دين الله الذي شرعه على لسان أنبيائه الأولين ولا يتبع أهواءهم وميولهم .
وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع ، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق .
{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب }
والآية استمرار في السياق كما هو واضح ، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين . ومع أن معظم المفسرين{[1806]} صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى .
وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزاعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه . وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع ، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها ؛ حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع ، وتؤمن بما أنزل الله من كتب وتأمر بالعدل والإنصاف مع الذين لا يدينون بالإسلام وبتركهم وشأنهم إذا ما التزموا نفس الموقف إزاء المسلمين وتفويض أمر الجميع إلى الله عز وجل ليؤيد من كان على الحق وثبت فيه ، ويخزي ويعاقب من انحرف عنه . وفي هذا ما فيه من اتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة والتلقين الجليل المستمر المدى .
وفي أمر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ؛ ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( 132 ) } ، وكذا : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك… } [ 128 ] ، وآية سورة آل عمران هذه : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( 80 ) } وآية سورة المائدة هذه : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون ( 111 ) } ، وآية سورة يونس هذه : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( 84 ) } وآية سورة القصص هذه : { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( 53 ) } وآية سورة الحج هذه : { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل . . . . }{[1807]}[ 78 ] .
ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان ما أمر بإعلانه في هذه الآية . ومنها آيات واسعة مثل آية سورة البقرة هذه : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 ) }{[1808]} تحصيلا لذلك الهدف العظيم .
ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة{[1809]} . كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما ، فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا{[1810]} . وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( 28 ) } .
هذا ، والمتبادر أن الآية وهي تقرير العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها . هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله ، وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتاب متعددين في ظروف مختلفة . وفيه ما هو منسوب إلى الله ورسله مع تنافيه مع المبادئ القرآنية المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية مثل ربوبية الله الشاملة ووحدته المطلقة المنزهة عن كل شائبة ومبادئ الحق والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة وحظر الربا والظلم والبغي والعدوان والمنكرات والآثام الخ على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف . ولقد أكد القرآن وقوع تحريف وإخفاء ونسيان في كتب الله المنزلة كما جاء في آيات سورة البقرة هذه : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( 75 ) } ، وهذه : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( 79 ) } ، وسورة آل عمران هذه : { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( 78 ) } وسورة المائدة هذه : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( 12 ) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( 13 ) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 14 ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) } .
والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق { آمنت بما أنزل الله من كتاب } وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية . ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . . . . . . . . } [ 48 ] بحيث يسوغ القول إن الله عز وجل قد جعل القرآن – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد – للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم .
وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود ؛ لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر . وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة ، ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما ، وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن ؛ لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار .