وقوله تعالى : { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ } مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحاً لحاليهما في الدنيا وتحقيقاً لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ماهو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي الخ ومن موصولة مبتدأ ويمشي صلته ومكباً حال من الضمير المستتر فيه وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأهدى خبر من ومن الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت والمكب الساقط على وجه يقال أكب خر على وجهه وهو من باب الأفعال والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال كبه الله تعالى فاكب وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيهاً وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها وأنسل ريش الطائر ونسلته وقال بعضهم التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في الأم إذا صار لئيماً وانفض إذا صار نافضاً لما في مزودته وليست للمطاوعة ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعاً للجوهري وغيره وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة وحكى ابن الأعرابي كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي «القاموس » ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائماً سالماً من الخبط والعثار على طريق مستوى الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته أعني مكباً للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا وفسر بعضهم السوي بمستوى الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى على صراط مستقيم يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في «البحر » في قولك العسل أحلى من الخل والآية على ما روى عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روى عن ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة وروى أنه قيل للنبي كيف يمشي الكافر على وجهه فقال عليه الصلاة والسلام إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلاً لمن سمعت كما هو معلوم في محله .
{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
أي : أي الرجلين أهدى ؟ من كان تائها في الضلال ، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلًا ، والباطل حقًا ؟ ومن كان عالمًا بالحق ، مؤثرًا له ، عاملًا به ، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله ؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين ، يعلم الفرق بينهما ، والمهتدي من الضال منهما ، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال .
قوله : { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } . ذلك مثل ضربه الله للكافر والمؤمن . فالأول مكبّ على وجهه يمشي معتسفا في مكان مضطرب غير مستو ولا مستقيم ، فيه انخفاض وارتفاع . فما يمشي فيه ساعة حتى يعثر ويخرّ على وجهه ساقطا . وهذا نقيض الثاني الذي يمشي سويا ، أي قائما معتدلا سالما من التعثر والخرور ، أو السقوط على وجهه . فهو مستقيم في مشيه ، غير معتسف ولا مضطرب ولا متعثر . أو أنه يراد بالأول ، الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق ، فهو بذلك يعتسف في مشيه ويتخبط وينكب على وجهه ساقطا . وهو ليس كالثاني السوي البصير ، الذي يمشي في طريقه ضالا هائما متلجلجا .
وتلك هي حال الكافرين في كل زمان . فإنهم ضالون يساقون في حياتهم الدنيا إلى ما تسوّله الأهوال والشهوات . فما يطغى على أنفسهم وطبائعهم إلا الأثرة والطمع والغريزة . أولئك هم الضالون من الناس الذين تسوقهم الشياطين إلى الضلال والمفاسد والشرور وظلم الإنسان للإنسان ، أما المؤمنون الصادقون الذين يستضيئون بنور العقيدة الربانية السمحة ، ويستظلون بظل الإسلام الرخيّ الحاني ، لا جرم أنهم في حياتهم آمنون سالمون أسوياء ، غير مضطربين ولا متعثرين ولا مذعورين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.