روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (9)

{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } ظرف { لَتُنَبَّؤُنَّ } [ التغابن : 7 ] وقوله تعالى : { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] وقوله سبحانه : { فَئَامِنُواْ } إلى { خَبِيرٌ } [ التغابن : 8 ] من الاعتراض ، فالأول : يحقق القدرة على البعث ، والثاني : يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به ، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى : { لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ } قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض ، وقوله سبحانه : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول : اعمل إني غير غافل عنك ، وقال الحوفي : ظرف لخبير وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد .

وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم ، ثم جوز هذا الوجه ، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى : { لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } [ التغابن : 7 ] فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر ، وجوز كونه منصوباً بإضمار اذكر مقدراً ، وتعقب بأنه وإن كان حسناً إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه ، وجوز كونه منصوباً بإضمار اذكر مقدراً ، وتعقب بأنه وإن كان حسناً إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه ، وجوز كونه ظرفاً لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم ، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه ، فالأرجح الوجه الأول ، وقرئ { يَجْمَعُكُمْ } بسكون العين ، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب ، وروي إشمامها الضم ، وقرأ سلام . ويعقوب . وزيد بن علي . والشعبي نجمعكم بالنون { لِيَوْمِ الجمع } ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، وقيل : الملائكة عليهم السلام والثقلان ، وقيل : غير ذلك ، والأول أظهر ، واللام قيل : للتعليل ، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب ، وقيل : بمعنى في فلا تقدير { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس . ومجاهد . وقتادة أنهم قالوا : يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد ، واختير للمبالغة ، وإلى هذا ذهب الواحدي .

وقال غير واحد : أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضاً بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس ، ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة » وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار ، أو جعل ذلك تغابناً مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل ، والأحسن الإطلاق ، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح ، واختار ذلك محي السنة حيث قال : التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذٍ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، قال الطيبي : وعلى هذا الراغب حيث قال : الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال : غبن فلان بضم الغين وكسر الباء ، وإن كان في رأي يقال : غبن بفتح الغين وكسر الباء ، و { يَوْمُ التغابن } يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله } [ البقرة : 207 ] وقوله سبحانه : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } [ التوبة : 111 ] وقوله عز وجل : { الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا } [ آل عمران : 77 ] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعاً انتهى ، والجملة مبتدأ وخبر ، والتعريف للجنس ، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت .

{ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا } أي عملاً صالحاً { يَكْفُرْ } أي الله تعالى { عَنْهُ سيئاته } في ذلك اليوم { وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَدًا } أي مقدرين الخلود فيها ، والجمع باعتبار معنى { مِنْ } كما أن الإفراد باعتبار لفظه ، وقرأ الأعرج . وشيبة . وأبو جعفر . وطلحة . ونافع . وابن عامر . والمفضل عن عاصم . وزيد بن علي . والحسن بخلاف عنه نكفر . وندخله بنون العظمة فيهما { ذلك } أي ما ذكر من تكفير السيآت وإدخال الجنات { الفوز العظيم } الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات .