نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (9)

ولما أخبر بالبعث وأقسم عليه ، وأشار إلى دليله السابق ، وسبب عنه ما ينجي في يومه ، ذكر يومه وما يكون فيه ليحذر{[65764]} فقال متبعاً ما مضى من دعائم الإيمان دعامة اليوم الآخر واعظاً{[65765]} لمن يقول : يا ليت شعري ما حالي بعد ترحالي ؟ وقامعاً لمن يقول : لا حال بعد الترحال ، بالإعلام بأنها أحوال أي أحوال ، تشيب{[65766]} الأطفال ، وتقصم ظهور الرجال ، بل تهد شم الجبال : { يوم } أي تبعثون في يوم { يجمعكم } أي أيها الثقلان . ولما كان الوقت المؤرخ به فعل من الأفعال إنما يذكر لأجل ما وقع فيه ، صار كأنه علة لذلك الفعل فقال تعالى : { ليوم الجمع } لأجل ما يقع في ذلك اليوم{[65767]} الذي يجمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض من الحساب والجزاء الذي يكون فوزاً لناس فيكونون غابنين ، ويكون خيبة لناس فيكونون مغبونين ، وكل منهم يطلب أن يكون غابناً .

ولما كان هذا المقصد أمراً عظيماً مقطعاً ذكره الأكباد ، قال تعالى مشيراً إلى هوله بأداة البعد مستأنفاً : { ذلك } أي اليوم العظيم المكانة الجليل الأوصاف { يوم التغابن } الذي لا تغابن في الحقيقة غيره لعظمه ودوامه ، والغبن : ظهور النقصان للحظ الناشىء عن خفاء لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون وسائر الخلق أجمعون ، ويكون فيه السمع والإبصار على غاية لا توصف بحيث إن جميع ما يقع{[65768]} فيه يمكن{[65769]} أن يطلع عليه كل أحد من أهل ذلك الجمع ، فإذا فضح أحد افتضح عند الكل ، وما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من{[65770]} النار لو أساء ليزداد{[65771]} شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد{[65772]} حسرة فيغبن كل كافر بتركه{[65773]} الإيمان وكل مؤمن بتقصيره{[65774]} في الإحسان ، ومادة " غبن " تدور على الخفاء من مغابن الجسد وهي ما يخفى عن العين ، وسمي الغبن في البيع - لخفائه عن صاحبه ، فالكافر والظالم يظن أنه غبن المؤمن بنعيم الدنيا الذي استأثر به الكافر ، وبالنقص الذي أدخله الظالم على المظلوم ، وقد غبنهما المؤمن والمظلوم على الحقيقة بنعيم الآخرة وكمال جزائها العظيم الدائم ، فالغبن فيه لا يشبهه غبن ، فقد بعث ذكر هذا اليوم على هذا الوجه على التقوى أتم بعث ، وهي الحاملة على اتباع الأوامر واجتناب النواهي لئلا يحصل الغبن بفوات النعيم أو نقصانه ، ويحصل بعده للكافر{[65775]} العذاب الأليم .

ولما كان كل أحد يحسب أن يكون في النور ، ويكره أن يكون في الظلام ، ويحب أن يكون غابناً ، ويكره أن يكون مغبوناً ، أرشدت سوابق الكلام ولواحقه إلى أن التقدير ، فمن آمن كان في النور ، وكان في ذلك اليوم برجحان ميزانه من{[65776]} الغابنين ، ومن كفر كان في الظلام ، وكان في ذلك اليوم بنقصان ميزانه من المغبونين ، فعطف{[65777]} عليه قوله بياناً لآثار ذلك الغبن ، وتفضيلاً له بإصلاح الحامل على التقوى وهي أمور منها القوة العلمية : { ومن يؤمن } أي يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار { بالله } أي الملك الأعظم الذي لا كفؤ له . ولما ذكر الرأس وهو إصلاح القوة العلمية ، أتبعه البدن وهو إصلاح القوة العملية فقال : { ويعمل } تصديقاً لإيمانه { صالحاً } أي عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في{[65778]} جلب المنافع ودفع المضار .

ولما كان الدين مع سهولته متيناً لن يشاده أحد إلا غلبه ، قال حاملاً على التقوى بالوعد بدفع المضار ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى أن زمان التكفير والدخول متفاوت بحسب طول الحساب وقصره ، كلما{[65779]} فرغ واحد من الحساب دخل الجنة إن كان من أهلها : { يكفر } أي الله - على قراءة الجماعة بأن يستر ستراً عظيماً { عنه{[65780]} سيئاته } التي غلبه عليها نقصان الطبع ، وأتبع ذلك الحامل الآخر وهو الترجئة يجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء والرهبة والرغبة{[65781]} والنذارة والبشارة فقال : { ويدخله } أي رحمة له وإكراماً وفضلاً{[65782]} { جنّات } أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ، ورياض مديدة منوعة الأزاهير{[65783]} عطرة النشر تبهج رائيها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله : { تجري } ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير{[65784]} ممدوح ، بين أنه في خلالها على أحسن{[65785]} الأحوال فقال : { من تحتها } وبين عظمه بقوله : { الأنهار } ولما كان النزوح{[65786]} أو توقعه عن مثل هذا محزناً ، أزال توقع ذلك بقوله جامعاً لئلا يظن الخلود لواحد بعينه تصريحاً بأن من معناها الجمع وأن كل من تناولته مستوون في الخلود : { خالدين فيها } وأكد بقوله{[65787]} : { أبداً } والتقدير{[65788]} على قراءة نافع وابن عامر{[65789]} بالنون : نفعل التكفير{[65790]} والإدخال إلى هذا النعيم بما لنا من العظمة فإنه لا يقدر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء إلا الله سبحانه ، ولا تكون هذه القدرة تامة إلا لمن كان عظيماً لا راد لأمره أصلاً .

ولما كان هذا أمراً باهراً جالباً بنعيمه سرور القالب ، أشار إلى عظمته بما يجلب سرور القلب بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام ، لا غيره { الفوز العظيم * } لأنه جامع لجميع المصالح{[65791]} مع دفع المضار وجلب المسار .


[65764]:- زيد في الأصل: السامع، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[65765]:- في ظ: وعظا.
[65766]:- زيد في الأصل وظ: لها، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[65767]:- زيد من ظ وم.
[65768]:- زيد من ظ.
[65769]:- زيد من م.
[65770]:- من م، وفي الأصل وظ: في.
[65771]:- من ظ وم، وفي الأصل: فيزداد.
[65772]:- من م، وفي الأصل وظ: لتركه.
[65773]:- من م، وفي الأصل وظ: لتركه.
[65774]:- من م، وفي الأصل وظ: لتقصيره.
[65775]:- زيد في الأصل وظ: من، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[65776]:- من ظ وم، وفي الأصل: في.
[65777]:- من م، وفي الأصل وظ: بطف.
[65778]:- زيد من م.
[65779]:- من ظ وم، وفي الأصل: كما.
[65780]:- وقع في الأصل قبل "سترا عظيما" والترتيب من ظ وم.
[65781]:- زيد من ظ وم.
[65782]:- زيد من ظ وم.
[65783]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأزهار.
[65784]:- زيد من ظ وم.
[65785]:- زيد من ظ وم.
[65786]:- من ظ وم، وفي الأصل: الروج.
[65787]:- من م، وفي الأصل وظ: قوله.
[65788]:- زيد في الأصل وظ: بقوله، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[65789]:- راجع نثر المرجان 7/371-372.
[65790]:- من ظ وم، وفي الأصل: التفكير.
[65791]:- من ظ وم، وفي الأصل: المصلح.