وقوله تعالى : { يوم يجمعكم } منصوب بقوله تعالى : { لتنبئون } عند النحاس و{ بخبير } عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم ، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به ، أو بما دلّ عليه الكلام ، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم ؛ قاله أبو البقاء { ليوم الجمع } أي : لأجل ما يقع في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض .
وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله ، وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم ، وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمّته ، وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي ، بل هو جامع لجميع ما ذكر { ذلك } أي : اليوم العظيم { يوم التغابن } والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، وفيه تهكم بالأشقياء ؛ لأن نزولهم ليس بغبن . ولهذا قيل : التفاعل هنا من واحد لا من اثنين ، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً » وهو معنى { ذلك يوم التغابن } وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت .
وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال ، فذلك هو الغبن البين ، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين ، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام .
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه . فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ أجيب : بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة ، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً .
وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار ، وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف : رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به ، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به ، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً ، وتركه لوارث لا حساب عليه ، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه ، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي . وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً : ما أنتما قائلان ؟ فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال ، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ، ولم يبق لي ما أوفي ، فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً ، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً ، فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة ، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له : غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به ، فذلك يوم التغابن » .
وقال بعض علماء الصوفية : إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى الله عليه وسلم «لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن ، وإن كان محسناً إن لم يزدد » .
تنبيه : استدل بعض العلماء بقوله تعالى : { ذلك يوم التغابن } أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى : { ذلك يوم التغابن } وهذا الاختصاص يفيد أن لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث ، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لحسان بن سعد : «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً » ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه ، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه ، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به .
والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث ، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها ، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل ، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً { ومن يؤمن } أي : يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار { بالله } أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له { ويعمل } تصديقاً لإيمانه { صالحاً } أي : عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار { يكفر عنه سيئاته } التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر ، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، والنذارة والبشارة { ويدخله } أي : رحمة له وإكراماً وفضلاً { جنات } أي : بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى : { تجري من تحتها } أي : من تحت قصورها وأشجارها { الأنهار } وقرأ نكفر عنه وندخله ، نافع وابن عامر بالنون فيهما ، أي : نحن بما لنا من العظمة ، والباقون بالياء التحتية ، أي : الله الواحد القهار { خالدين } أي : مقدرين الخلود { فيها } وأكده بقوله : { أبداً } فلا خروج لهم منها { ذلك } أي : الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام { الفوز العظيم } لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار ، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.