اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (9)

قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } . منصوب بقوله : «لتُنبَّؤنَّ » عند النحاس ، وب «خَبِير » عند الحوفي ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم{[56883]} .

وب «اذكر » مضمراً عند الزمخشري ، فيكون مفعولاً به{[56884]} .

أو بما دلّ عليه الكلام ، أي يتفاوتون يوم يجمعكم . قاله أبو البقاء{[56885]} .

وقرأ العامَّة : «يَجْمعُكُمْ » بفتح الياء وضم العين .

ورُوِي سكونُها{[56886]} وإشمامها عن أبي عمرو ، وهذا منقول عنه في الراء نحو «ينصركُمْ » وبابه كما تقدم في البقرة .

وقرأ يعقوب{[56887]} وسلام وزيد بن علي والشعبي ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري : «نَجْمعُكُمْ » بنون العظمة ، اعتباراً بقوله : { والنور الذي أَنزَلْنَا } . والمراد ب «يَوْمَ الجَمْعِ »{[56888]} أي : يوم القيامة ، يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض .

وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله .

وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم .

وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمته .

وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي .

قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } .

«التَّغَابُن » تفاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة ، وهو أخذ الشيء بدون قيمته .

وقيل : الغبن : الإخفاء ، ومنه غبن البيع لاستخفائه ، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين{[56889]} .

ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، أي : أخذت ما طال منه من مقدارك : فهو نقص وإخفاء .

وفي التفسير : هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره ، فيعمل فيه بطاعة الله ، فيدخل الأول النار ، والثاني الجنة بذلك المال ، فذلك هو الغَبْن البَيِّن{[56890]} والمغابن : ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين .

والمغبون : من غبن في أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يومئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام{[56891]} .

قال الزجاج{[56892]} : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه .

فإن قيل : فأيُّ معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ .

فالجواب{[56893]} : هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ }[ البقرة : 16 ] ، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا ، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا ، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة ، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً ، وقد فرق الله الخلق فريقين : فريقاً للجنة وفريقاً في السعير .

وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف :

رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به ، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به ، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه ، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه ، ورجل كان له عبد ، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي{[56894]} .

وروى القرطبي{[56895]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا : قُولا مَا أنتما بِقَائِلين ، فيقُولُ الرَّجُلُ : يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ : يا ربِّ ، وما عَسَى أَن أقُولَ ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً ، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً{[56896]} ، فيقُولُ اللَّهُ تعالى : قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة ، فتقُولُ لَهُ : غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت ؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ »{[56897]} .

فصل

استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية ، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } ، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث . واختاره البغداديون ، واحتجوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - لحبان بن منقد : «إذا بِعْتَ فَقُل : لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً » .

ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع ، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً ؛ لأنه لا يخلو منه ، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به ، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث ، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها{[56898]} .

ويكون معنى الآية على هذا : يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل ، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً .

قال بعض علماء الصُّوفية : إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً ؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب{[56899]} .

قال - عليه الصلاة والسلام - : «لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ »{[56900]} .

قوله : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ } .

قرأ نافع{[56901]} وابن عامر : بالنون ، والباقون : بالياء .


[56883]:ينظر: الدر المصون 6/326.
[56884]:ينظر: الكشاف 4/548.
[56885]:ينظر: الإملاء 2/1626.
[56886]:ينظر: السبعة 638، والحجة 6/296، والمحرر الوجيز5/319، والبحر المحيط 8/274، والدر المصون 6/326.
[56887]:ينظر: شرح الطيبة 6/57، وإتحاف 2/542، والمحرر الوجيز 15/319، والبحر المحيط 8/274، والدر المصون 6/326، والقرطبي 18/90.
[56888]:ينظر: القرطبي 18/90.
[56889]:ينظر: الدر المصون 6/326.
[56890]:ينظر: الدر المصون 6/326.
[56891]:ينظر: القرطبي 18/90.
[56892]:ينظر: معاني القرآن 180.
[56893]:ينظر: القرطبي 18/90.
[56894]:السابق 18/91.
[56895]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/19).
[56896]:في أ: سحقا.
[56897]:ينظر: تفسير القرطبي (18/91).
[56898]:ينظر: السابق.
[56899]:القرطبي (18/91-92).
[56900]:تقدم.
[56901]:ينظر: السبعة 638، والحجة 295، وإعراب القراءات 2/371، وحجة القراءات 711، والعنوان 191، وإتحاف 2/542.