تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (9)

الآية 9 وقوله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } [ ذلك اليوم ]{[21347]} في الحقيقة يوم جمع وتفريق{[21348]} ، وهو أيضا في الحقيقة يوم تغابن وترابح ، وإن ذكر أحدهما : [ دليل ]{[21349]} ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فريق في الجنة وفريق في السعير } ؟ [ الشورى : 7 ] وإلى ما ذكر في عقيب قوله { ذلك يوم التغابن } [ وهو ]{[21350]} قوله : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } وهذا هو معنى الترابح ، ولكنه ، جل ثناؤه ، يجوز أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر . ثم الغبن يذكر في التجارات .

والأصل في ذلك عندنا أن كل سليم طبعه ، لا يخلو من عمل ، وعمله لا يخلو من إحدى ثلاثة أوجه : إما أن يكون في مباح [ وإما ]{[21351]} أمرا [ وإما ]{[21352]} نهي .

ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر ؛ إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر ، وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه ، فكأنه في إقامة ذلك الأمر ، فحقيقته ترجع إلى [ أن ]{[21353]} الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين : إلى أمر ونهي .

ومعلوم أن من كان في أمر فهو تارك لما نهي عنه ، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به .

والتجارة في الحقيقة هي أن [ يؤخذ شيء ]{[21354]} بترك شيء آخر . وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم أطلق لها لفظ التجارة .

قال : والدنا لها ثلاثة أسماء : المتجر ، والمزرع ، والمسلك . وقد وصفنا معنى التجارة .

وأما معنى المزرع فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة ، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرا ؛ فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير ، ومن كانت عاقبته الشر [ فهو زارع للشر ]{[21355]}والله أعلم .

وأما معنى المسلك والطريق فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها ، وإنما خلقوا لأحد أمرين : إما للثواب[ وإما ]{[21356]} للعقاب ؛ فكل من عمل عملا ، يفضي به إلى الثواب والجنة [ فكأنه يسلك طريق الجنة ]{[21357]} وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار فكأنه يسلك طريق النار ، ولذلك سميت{[21358]} مسلكا وطريقا ، والله أعلم .

ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الآخرة ، لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا ، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة . فإذا لم يجدوا ، وصار{[21359]} بعضهم يلعن بعضا ، غبنوا ما كانوا يأملون منهم .

وقال بعضهم : إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا ، فإذا صاروا إلى النار ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة ، فهذا هو التغابن .

ولكن هذا غير صحيح عندنا لأنه لا يحتمل أن يبني الله تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أنه لا يأتيه ، لأن هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله ، جل الله تعالى عن مثل هذا الوصف ، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر ، أي إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة . وإن ارتد المسلم عن الإسلام كان له ذلك المنزل في النار ، وهو عالم أن عاقبة أمره إزاء{[21360]} الكفر أو الإسلام وأن مأواه النار أو الجنة ، وحكمه على ما علم ، وأراد .

ولكن الله تعالى عالم بما كان وما يكون وبما لا يكون : أي لو كان ، أي لو كان كيف يكون ، فأخبر على ذلك ، وإلا لم يصح لما ذكرنا من المعنى ، والله الموفق .

ويحتمل أنه إنما سماه يوم التغابن لأن الدنيا جعلت أسواقا ، والأحوال التي تكون لهم رؤوس الأموال ، والأعمال التي يعملون فيها ، ويكتسبون ، تجارة ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ] ثم قال : { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله } الآية ؟ [ الصف : 11 ] وقال في آية أخرى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية [ التوبة : 111 ] وقال [ في موضعين آخرين ]{[21361]} { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 و175 ] وقال [ في آية أخرى ]{[21362]} : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } [ البقرة : 86 ] .

فإذا كانت الدنيا متجرة ، والآخرة هي التي تقسم فيها الأرباح ، ففي{[21363]} ذلك يقع الربح /573- أ / [ والخسران ، ويظهر الغبن والفضل والنقصان والزيادة ، والله أعلم .

وسماه يوم التغابن لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا ، أو ربحوا ، فلا يظهر لهم ذلك في الدنيا ، ثم بين العمل الذي يربح ]{[21364]} عليه والعمل الذي يخسر به والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح والتي يلحق بها الخسران ، وهو ما قال : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية ، وقال : { والذين كفرا وكذبوا بآياتنا } الآية [ المائدة : 10 و . . . والتغابن : 10 ] .

وقوله تعالى : تعالى : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا } يعني { ومن يؤمن بالله } [ على ما جاءت ]{[21365]} به الرسل وأن له الخلق والأمر ، ويؤمن بالرسل والبعث ، فذلك هو الإيمان بالله تعالى .

وقوله تعالى : { ويعمل صالحا } يعني ويعمل في إيمانه صالحا إلى أن يموت{[21366]} .


[21347]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم
[21348]:في الأصل وم: والفريق
[21349]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم
[21350]:في الأصل وم: من
[21351]:في الأصل وم: أو
[21352]:في الأصل وم: أو
[21353]:من م ساقطة من الأصل
[21354]:في الأصل وم: يأخذ شيئا
[21355]:من م، ساقطة من الأصل
[21356]:في الأصل وم:أو
[21357]:من م، ساقطة من الأصل
[21358]:في الأصل وم: سمي
[21359]:في الأصل وم: وصاروا.
[21360]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم / بماذا
[21361]:ساقطة من الأصل وم.
[21362]:ساقطة من الأصل وم
[21363]:في الأصل وم: وفي
[21364]:من م، ساقطة من الأصل
[21365]:من م، في الأصل: ويعمل صالحا وت.
[21366]:من م، في الأصل: يكون.