الآية 9 وقوله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } [ ذلك اليوم ]{[21347]} في الحقيقة يوم جمع وتفريق{[21348]} ، وهو أيضا في الحقيقة يوم تغابن وترابح ، وإن ذكر أحدهما : [ دليل ]{[21349]} ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فريق في الجنة وفريق في السعير } ؟ [ الشورى : 7 ] وإلى ما ذكر في عقيب قوله { ذلك يوم التغابن } [ وهو ]{[21350]} قوله : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } وهذا هو معنى الترابح ، ولكنه ، جل ثناؤه ، يجوز أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر . ثم الغبن يذكر في التجارات .
والأصل في ذلك عندنا أن كل سليم طبعه ، لا يخلو من عمل ، وعمله لا يخلو من إحدى ثلاثة أوجه : إما أن يكون في مباح [ وإما ]{[21351]} أمرا [ وإما ]{[21352]} نهي .
ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر ؛ إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر ، وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه ، فكأنه في إقامة ذلك الأمر ، فحقيقته ترجع إلى [ أن ]{[21353]} الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين : إلى أمر ونهي .
ومعلوم أن من كان في أمر فهو تارك لما نهي عنه ، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به .
والتجارة في الحقيقة هي أن [ يؤخذ شيء ]{[21354]} بترك شيء آخر . وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم أطلق لها لفظ التجارة .
قال : والدنا لها ثلاثة أسماء : المتجر ، والمزرع ، والمسلك . وقد وصفنا معنى التجارة .
وأما معنى المزرع فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة ، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرا ؛ فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير ، ومن كانت عاقبته الشر [ فهو زارع للشر ]{[21355]}والله أعلم .
وأما معنى المسلك والطريق فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها ، وإنما خلقوا لأحد أمرين : إما للثواب[ وإما ]{[21356]} للعقاب ؛ فكل من عمل عملا ، يفضي به إلى الثواب والجنة [ فكأنه يسلك طريق الجنة ]{[21357]} وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار فكأنه يسلك طريق النار ، ولذلك سميت{[21358]} مسلكا وطريقا ، والله أعلم .
ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الآخرة ، لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا ، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة . فإذا لم يجدوا ، وصار{[21359]} بعضهم يلعن بعضا ، غبنوا ما كانوا يأملون منهم .
وقال بعضهم : إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا ، فإذا صاروا إلى النار ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة ، فهذا هو التغابن .
ولكن هذا غير صحيح عندنا لأنه لا يحتمل أن يبني الله تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أنه لا يأتيه ، لأن هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله ، جل الله تعالى عن مثل هذا الوصف ، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر ، أي إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة . وإن ارتد المسلم عن الإسلام كان له ذلك المنزل في النار ، وهو عالم أن عاقبة أمره إزاء{[21360]} الكفر أو الإسلام وأن مأواه النار أو الجنة ، وحكمه على ما علم ، وأراد .
ولكن الله تعالى عالم بما كان وما يكون وبما لا يكون : أي لو كان ، أي لو كان كيف يكون ، فأخبر على ذلك ، وإلا لم يصح لما ذكرنا من المعنى ، والله الموفق .
ويحتمل أنه إنما سماه يوم التغابن لأن الدنيا جعلت أسواقا ، والأحوال التي تكون لهم رؤوس الأموال ، والأعمال التي يعملون فيها ، ويكتسبون ، تجارة ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ] ثم قال : { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله } الآية ؟ [ الصف : 11 ] وقال في آية أخرى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية [ التوبة : 111 ] وقال [ في موضعين آخرين ]{[21361]} { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 و175 ] وقال [ في آية أخرى ]{[21362]} : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } [ البقرة : 86 ] .
فإذا كانت الدنيا متجرة ، والآخرة هي التي تقسم فيها الأرباح ، ففي{[21363]} ذلك يقع الربح /573- أ / [ والخسران ، ويظهر الغبن والفضل والنقصان والزيادة ، والله أعلم .
وسماه يوم التغابن لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا ، أو ربحوا ، فلا يظهر لهم ذلك في الدنيا ، ثم بين العمل الذي يربح ]{[21364]} عليه والعمل الذي يخسر به والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح والتي يلحق بها الخسران ، وهو ما قال : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية ، وقال : { والذين كفرا وكذبوا بآياتنا } الآية [ المائدة : 10 و . . . والتغابن : 10 ] .
وقوله تعالى : تعالى : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا } يعني { ومن يؤمن بالله } [ على ما جاءت ]{[21365]} به الرسل وأن له الخلق والأمر ، ويؤمن بالرسل والبعث ، فذلك هو الإيمان بالله تعالى .
وقوله تعالى : { ويعمل صالحا } يعني ويعمل في إيمانه صالحا إلى أن يموت{[21366]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.