التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (30)

قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ( 30 ) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنين لعلكم تفلحون ( 31 ) } .

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بأن يكفوا أبصارهم عما حُرم النظر إليه فلا ينظروا إلا إلى ما أبيح النظر إليه .

ومن الحقائق البديهية أن البصر لهو أعظم سبيل يفضي إلى تحريك النفس من الداخل . فما تفتأ النفس ساكنة راقدة هادئة غير مفتونة حتى تؤزها فتنة الجسد المنظور . وطريق ذلك وسببه البصر . فإنه ينقل بوساطة الأعصاب الموصولة بالداخل ، حقيقة المنظر المؤثر لتفتتن به النفس وتميد . فلا جرم أن يكون الكف من البصر عن النظر إلى المحرمات سببا عظيما في انتفاء الفتنة أو التخفيف من شدتها وغلوائها .

ومن هنا يأتي تحريم النظر إلى النساء الأجنبيات لمجرد التلذذ والشهوة . وفي ذلك جاء في الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( ص ) : " إياكم والجلوس على الطرقات " قالوا : يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها . فقال رسول الله ( ص ) : " إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه " قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : " غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " . فقد أمر بغض البصر من غير لزوم ولا حاجة تدعو للنظر إلا التلذذ والتشهي . فإن مثل هذا النظر مدعاة لتحريك الشهوة والافتتان من الداخل مع ما يصحب ذلك من تلهف القلب وشدة انشغاله ، ومن اضطراب الأعصاب وبالغ احترارها ، وفي هذه الغمرة من الفتنة تغيب عن النفس نعمة الراحة والسكون فتظل مفتتنة مشبوبة ، فضلا عما يفضي إليه ذلك من الرغبة اللحاحة في قضاء الوطر الأخير وهو الزنا .

وفي الصحيح عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ؛ فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، وزنا الأذنين الاستماع ، وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطى . والنفس تمنى وتشتهي . والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

ولقد كان كثير من علماء السلف ينهون عن إدامة النظر إلى الأمرد لاحتمال الفتنة والغواية . فما ينبغي للمؤمن أن يديم النظر لوجه الأمرد دون حاجة ، دفعا للشيطان أن ينفخ في عروق الناظر فيحرك فيه كوامن الغريزة المستنيمة .

على أنه من خصائص الإسلام المميزة حرصه على الوقاية قبل العلاج ؛ فإن الوقاية لهي الأهم ؛ لأنها تحول دون التلبس بالفواحش والمنكرات . وعلى هذا فإن الإسلام ؛ إذ يهيمن بعقيدته وتشريعه على أمة ، يبادر في تبديد بواعث الفتنة والغواية والفساد من بين الناس . فما من سبب يفضي إلى المعصية أو الفاحشة إلا منعه الإسلام وحرمه تحريما قبل أن تقع المعصية أو الفاحشة نفسها . وفاحشة الزنا لا تقع بغتة إلا عقب أسباب ومقدمات وبواعث تؤول إلى الزنا نفسه . فكان من مسلمات المنطق حظر هذه الأسباب والمقدمات كيلا يقع الزنا نفسه . على أن الأسباب والمؤديات إلى الزنا كثيرة : أولها وأهونها وأيسرها النظر ؛ فهو السبب البسيط الأول الذي يطرق المشاعر والأعصاب لتأخذ الشهوة بعد ذلك في التحرك والاضطراب والتململ . ومن هنا جاء الأمر بغض البصر عن المحارم .

على أن النظر إلى النساء ، إن كان لغرض لا فتنة فيه فهو جائز ووجوه ذلك كثير ، منها : إذا أراد النكاح فله أن ينظر إلى وجه المرأة وكفيها . وذلك للخبر : " إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة " وقال المغيرة بن شعبة : خطبت امرأة فقال عليه السلام : " نظرت إليها ؟ " فقلت : لا . قال " فانظر فإنها أحرى أن يؤدم بينكما " .

ومنها : النظر إليها عند تحمل الشهادة . ولا ينظر حينئذ إلى غير الوجه لحصول المعرفة به .

ومنها : نظر الطبيب الأمين إليها من أجل المعالجة كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون .

ومنها : لو وقعت المرأة في غرق أو حرق ؛ فله أن ينظر إلى بدنها كي يخلصها .

قوله : ( من أبصارهم ) من ، لتبيين الجنس . والمقصود بها التبعيض وهو قول أكثر أهل العلم . وقيل : زائدة . وهو قول ضعيف{[3250]} .

قوله : ( ويحفظوا فروجهم ) وذلك بصونها من التهتك وسترها لئلا يراها من لا يحل له النظر إليها . والمراد حفظ الفروج عن سائر ما حرم الله ، من الزنا والمس والنظر . أما الوطء فهو أغلظ في النهي والتحريم .

قوله : ( ذلك أزكى لهم ) الإشارة عائدة إلى غض البصر وحفظ الفروج ؛ فإن ذلك أطهر للقلوب ، وأبعد من التدنس بالآثام أو الوقوع في الريبة .

قوله : ( إن الله خبير بما يصنعون ) ذلك تهديد من الله ووعيد للذين يقعون في المحظورات ، المخالفين عن أمر الله ، والمتلبسين فيما نهى عنه من النظر إلى الأجنبيات أو الاعتداء على أعراض المسلمين بمختلف الوجوه المحرمة . فإن الله عليم بذلك كله ، خبير بما يصنعون الآثمون والعصاة .


[3250]:- البيان لابن الأنباري جـ2 ص 194.