البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (30)

غض البصر : أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية .

قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

و { من } في { من أبصارهم } عند الأخفش زائدة أي { يغضوا } { أبصارهم } عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية .

وقال ابن عطية : يصح أن تكون { من } لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى .

ولم يتقدم مبهم فتكون { من } لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس .

{ ويحفظوا فروجهم } أي من الزنا ومن التكشف .

ودخلت { من } في قوله { من أبصارهم } دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق .

وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين .

{ ذلك } أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم { إن الله خبير بما يصنعون } من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك .

وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته .

وقال بعض الأدباء :

وما الحب إلا نظرة إثر نظرة *** تزيد نمواً إن تزده لجاجا